إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همه من صدره برحيل
قلت: أبو نواس: قال: فمن الذي يقول:
فتشمت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم
قلت: أبو نواس، قال: فمن الذي يقول:
هي الخمر لا زالت تذيع فضائحي ... وتفعل ما شاءت بي الخمر من أمر
متى أكتسب مالاً، فللخمر شطره ... ويحكم رب الخرد العين في الشطر
قلت: هذا من ديباج قول أبي نواس، قال: فمن الذي يقول:
أقل ما فيه من فضائله ... أمنك من طمثه ومن حبله
قلت: هو أبو نواس، قال: هو أشعر الأولين والآخرين من الإنس والجن، قال: فعجبت من المأمون، وعنايته بأبي نواس، وحفظه لشعره.
وقال الأصمعي: قلت يوماً لبشار: رأيت رجال الرأي يتعجبون من أبياتك التي في المشورة، وهي قولك:
إذا بلغ الرأي المشورة، فاستعن ... بقول نصيح، أو مشورة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي عدة للقوادم
وخل الهوينى للضعيف، ولا تكن ... نئوماً؛ فإن الحزم ليس بنائم
وما خير كف أمسك الغل أختها ... وما خير سيف لم يقيد بقائم
فقال بشار: أما علمت أن المشاورة على إحدى الحسنيين، صواب يفوز به، وبثمرته، أو خطأ يشارك في مكروهه، قال الأصمعي: أنت، والله، في قولك أشعر منك في شعرك.
ودخل على الحجاج سليك بن سلكة فقال: أصلح الله الأمير، أعرني سمعك واغضض عني بصرك، واكفف عني عزك، فإن سمعت خطأ أو زللاً فدونك والعقوبة، قال: قل، قال: عصى عاص من العشيرة، فخلق على اسمي، وحرمت عطائي، وهدم منزلي، فقال الحجاج: هيهات، أما سمعت قول الشاعر:
جانيك من يجني عليك، وربما ... تفدي الصحاح مبارك الجرب
ولرب مأخوذ بذنب عشيرة ... ونجا المقارب صاحب الذنب
قال: أصلح الله الأمير: إني سمعت الله يقول غير هذا، قال: وما ذاك؟ قال الله: (يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذَ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متعنا عنده إنا إذاً لظالمون) قال الحجاج: علي بيزيد بن مسلم، فوقف بين يديه، فقال: افكك لهذا عن اسمه، واصكك له بعطائه، وابن له منزله، ومر منادياً ينادي في الناس: صدق الله، وكذب الشاعر.
ولما هجا الحطيئة الزبرقان بن بدر بالشعر الذي يقول فيه:
دع المكارم، لا ترحل لبغيها ... واقعد، فإنك أنت الطاعم الكاسي
استعدى عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأنشده البيت، فقال: ما أرى به بأساً، قال الزبرقان: والله، يا أمير المؤمنين، ما هجيت ببيت قط أشد علي منه، فبعث إلى حسان بن ثابت فقال: انظر إن كان هجاه، فقال: ما هجاه ولكن سلح عليه، ولم يكن عمر رضي الله عنه يجهل موضع الهجاء، ولكن كره أن يتعرض لشأنه، فبعث إلى شاعر مثله، وأمر بالحطيئة إلى السجن، وقال: يا خبيث، لأشغلنك عن أعراض المسلمين، فكتب إليه من السجن:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النهى البشر
ما آثروك بها، إذا قدموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بها الأثر
ولما هجا النجاشي رهط تميم بن مقبل، استعدوا عليه عمر بن الخطاب، وقالوا: يا أمير المؤمنين، إنه هجانا، قال: فما قال فيكم؟ قالوا: إنه قال:
إذا الله عادى أهل لؤم وذلة ... فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل
فقال عمر: رجل دعا، فإن كان مظلوماً استجيب له، وإن لم يكن مظلوماً لم يستجب له، قالوا: فقد قال بعد هذا:
قبيلتهم لا يخفرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
فقال عمر رضي الله عنه: لبيت آل بني الخطاب مثل هؤلاء، قالوا: فإنه يقول بعد هذا:
ولا يردون الماء إلا عشية ... إذا صدر الوراد عن كل منهل
فقال عمر: ذلك أجم لهم وأمكن قالوا: فإنه يقول بعد هذا:
وما سمي العجلان إلا لقوله ... خذ العقب واحلب أيها العبد واعجل
فقال عمر: سيد القوم خادمهم، فما أرى بهذا بأساً، ولم يكن عمر رضي الله عنه ينكر أن ذلك هجو، ولكنه أراد أن يدرأ الحد بالشبهات.