وكان بنو عبد المدان الحارثيون يفخرون بطول أجسامهم، حتى قال فيهم حسان بن ثابت:
لا بأس بالقوم من طول ومن غلظ ... جسم البغال وأحلام العصافير
فقالوا له: يا أبا الوليد، والله، لقد تركتنا ونحن نستحي من ذكر أجسامنا، بعد أن كنا نفخر بذلك.
وكان بنو نمير أشراف قيس وذؤابتها، وكان الرجل منهم يفخر بذلك ويقول: النميري، ويمد صوته حتى قال جرير:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
فانكسرت شوكتهم من يومئذ، ولم تعرف لهم علامة بعد ذلك.
وكان بنو أنف الناقة يسمون بهذا الاسم، يسأل الرجل منهم عن نسبه فيخفيه، ولا ينتسب لأنف الناقة، حتى قال فيهم الحطيئة:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوى بأنف الناقة الذنبا
وجاء أعرابي إلى أبي داود بن المهلب فقال له: إني مدحتك فاسمع مني، قال: قف قليلاً، ثم دخل بيته وتقلد سيفه، وخرج فقال: قل، فإن أحسنت حكمناك، وإن لم تحسن قتلناك، فقال:
أمنت بداود وجود يمينه ... من المحدث المخشي والبؤس والفقر
فأصبحت لا أخشى بداود نبوة ... من الحدثان، إذا شددت به أزري
له حلم لقمان، وصورة يوسف ... وحكم سليمان، وعدل أبي بكر
فتى تفرق الأموال من جود كفه ... كما يفرق الشيطان من ليلة القدر
فقال له: قل، فقد حكمناك، فإن شئت على قدرنا، وإن شئت على قدرك، قال: بل على قدري، فأعطاه خمسين ألفاً، فقال له جلساؤه: هلا احتكمت على قدر الأمير؟ قال: لم يكن في ماله ما يفي بقدره، فقال له داود: أنت في هذا أشعر منك في شعرك، وأمر له بمثل ما أعطاه.
وقال الأصمعي: كنت عند الرشيد، إذ دخل عليه إبراهيم الموصلي فأنشده:
وآمرة بالبخل قلت لها: اقصري ... فليس إلى ما تأمرين سبيل
فعالي فعال المكثرين تجملاً ... ومالي كما تعلمين قليل
وكيف أخاف الفقر، أو أحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل
فقال له الرشيد: لله أبيات، تأتينا بها، ما أحسن أصولها، وأبين فصولها، وأقل فضولها، يا غلام: أعطه عشرين ألفاً، قال: والله، لا أخذت منها درهماً، قال: ولم؟ قال: لأن كلامك، والله، يا أمير المؤمنين، خير من شعري، قال: أعطوه أربعين ألفاً، قال الأصمعي: فعرفت أنه أصيد الدراهم الملوك مني.
وقال الشيباني: ولد لأبي دلامة ابنة ليلاً، فأوقد السراج، وجعل يخيط خريطة شقق، فلما أصبح طواها بين أصابعه، وغدا بها إلى المهدي، فاستأذن عليه، فأذن له، وكان لا يحجب عنه، فأنشده:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم، لقيل: اقعدوا يا آل عباس
ثم ارتقوا من شعاع الشمس في درج ... إلى السماء، فأنتم أكرم الناس
فقال المهدي: أحسنت، والله، يا أبا دلامة، فما الذي غدا بك إلينا؟ فقال: ولدت لي جارية، يا أمير المؤمنين، قال: فهل قلت فيها شعراً؟ قال: قلت:
بللت علي ... لا حييت
ثوبي
فبال عليك شيطان رجيم
فما ولدتك مريم أم عيسى ... ولم يكفلك لقمان الحكيم
ولكن قد تضمك أم سوء ... إلى لباتها، وأب لئيم
قال: فضحك المهدي وقال: فيم تريد أن أعينك في تربيتها؟ قال: تملأ لي هذه يا أمير المؤمنين، وأشار إليه بالخريطة بين أصابعه، قال له المهدي: وما عسى أن تحمل هذه؟ قال: من لم يقنع بالقليل، لم يقنع بالكثير، فأمر أن تملأ له، فلما نشرت بلغت صحن الدار، فدخل فيها أربعة آلاف درهم.
وكتب أبو دلامة إلى عيسى بن موسى، وهو والي الكوفة رقعة فيها هذه الأبيات:
إذا جئت الأمير فقل سلام ... عليك ورحمة الرب الرحيم
فأما بعد ذاك فلي غريم ... من الأنصار قبح من غريم
لزوم ما علمت لباب داري ... لزوم الكلب أصحاب الرقيم
له مائة علي ونصف أخرى ... ونصف النصف من صك قديم
دراهم ما انتفعت بها ولكن ... حبوت بها شيوخ بني تميم
فبعث إليه بمائة ألف.
ولقي أبو دلامة أبا دلف في صيد له، وهو والي العراق، فأخذ بعنان فرسه، وأنشد:
إني حلفت لئن رأيتك سالماً ... بقرى العراق، وأنت ذو وفر
لتصلين على النبي محمد ... ولتملأن دراهماً حجري