للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقال: أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فنعم، وأما الدراهم، فلما نرجع إن شاء الله، فقال: جعلت فداك، لا تفرق بينهما، فاستسلفها له، وصبت في حجره، حتى أثقلته.

ودخل رجل من الشعراء على يحيى بن خالد بن برمك فأنشده:

سألت الندى: هل أنت حر؟ فقال: لا ... ولكنني عبد ليحيى بن خالد

فقلت: شراء؟ قال: لا، بل وراثة ... توارثني عن والد بعد والد

فأمر له بعشرة آلاف درهم.

وصنع بعض الناس وليمة، وكان فيها المبرد، وكانوا يسمعون غناء مغنية من وراء ستر، فاندفعت تغني:

وقالوا لها: هذا حبيبك معرض ... فقلت لهم: إعراضه أيسر الخطب

وما هي إلا نظرة ثم حسرة ... فتصطك رجلاه، ويسقط للجنب

فطرب كل من حضر طرباً شديداً، إلا المبرد، فأخذ صاحب الوليمة يعاتبه على عدم طربه، فقالت له المغنية: دعه يا سيدي، فلعله توهم أني لحنت في قولي؛ هذا حبيبك معرض، ولم يعلم أن ابن مسعود قرأ: (وهذا بعلى شيخاً) ، فبلغ الطرب بالمبرد أن شد في ثيابه، وهذا من أحسن ما يوجد من طرب النساء وكمالهن.

وأهدى رجل من الثقلاء إلى رجل من الظرفاء جملاً، ثم نزل عليه حتى أبرمه، فقال فيه:

يا مبرماً أهدى جمل ... خذ وارتحل ألفي جمل

قال: وما أوقرها ... قلت: زبيب وعسل

قال: ومن يقودها ... قلت: له ألفا بطل

قال: وما لباسهم ... قلت: حلي وحلل

قال: وما سلاحهم ... قلت: سيوف وأسل

قال: عبيد لي إذن ... قلت: نعم، ثم خول

قال: وقد أضجرتكم ... قلت: أجل، ثم أجل

قال: وقد أبرمتكم ... قلت له: الأمر جلل

قال: وقد أثقلتكم ... قلت له: فوق الثقل

قال: فإني راحل ... قلت: العجل، ثم العجل

يا جبلاً من جبل ... في جبل فوق الجبل

وبينما خالد بن الله القسري جالس في مظلة، إذ نظر إلى أعرابي يخب إليه بعيره، مقبلاً نحوه، فقال لحاجبه: إذا قدم فلا تحجبه، فلما دخل عليه سلم وقال:

أصلحك الله، قل ما بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا

أناخ دهر، ألقى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا

فقال خالد: أرسلوك وانتظروا، والله لا تنزل حتى تنصرف إليهم بما يسرهم، وأمر له بجائزة عظيمة، وكسوة شريفة.

ووقف رجل من الشعراء إلى عبد الله بن طاهر، فأنشده:

إذا قيل: أي فتى تعلمون ... أهش إلى البأس والنائل؟

وأضرب للهام يوم الوغى ... وأطعم في الزمن الماحل؟

أشار إليك جميع الأنام ... إشارة غرقى إلى ساحل

فأمر له بخمسين ألف درهم.

وقال أحمد بن مطير: أنشدت عبد الله بن طاهر أبياتاً، كنت مدحت بها بعض الولاة، وهي:

له يوم بؤس فيه للناس أبؤس ... ويوم نعيم، فيه للناس أنعم

فيقطر يوم الجود من كفه الندى ... ويقطر يوم البؤس من كفه الدم

فلو أن يوم البؤس خلى عقابه ... على الناس لم يصبح على الأرض مجرم

ولو أن يوم الجود خلى نواله ... على الأرض لم يصبح على الأرض معدم

فقال: كم أعطاك عليها؟ قلت: خمسة آلاف، قال: فقبلتها؟ قلت: نعم، قال: أخطأت، ما ثمن هذه إلا مائة ألف.

وحدث أحمد بن زهير قال: كان أحمد بن زيدان الكاتب قاعداً بين يدي يحيى بن أكثم يكتب، وكان شاباً جميلاً، فقرص يحيى خده، فاستحى ابن زيدان، واحمر وجهه، ورمى القلم من يده، فقال له: خذ القلم واكتب، فأخذ القلم وكتب:

أيا قمراً جمشته فتغضبا ... وأصبح من تيه به متجنبا

إذا كنت للتخميش والقرص كارهاً ... فكن أبداً يا مينتي متنقبا

ولا تظهر الأصداغ للناس فتنة ... وتجعلها من فوق خدك عقربا

فتقتل مشتاقاً، وتفتن نكاسا ... وتترك قاضي المسلمين معذبا

ودخل أعرابي على خالد بن عبد الله القسري، فرأى عنده شعراء وهم ينشدونه فسكت الأعرابي يسمع المدائح، وينظر إلى الجوائز تفرق، فقام ثم قال: جعلت فداك، يا أمير المؤمنين، ما يمنعني من إنشادي إلا قلة ما معي مما قلته فيك من الشعر، فأمر أن يكتب ما معه فكتب:

تبرعت لي بالجود، حتى ملكتني ... وأعطيتني حتى حسبتك تلعب

فأنت الندى وابن الندى وأبو الندى ... وحلف الندى، ما للندى عنك مذهب

<<  <   >  >>