ودخل الشعبي على بشر بن مروان، وهو والي العراق لأخيه عبد الملك بن مروان وعنده جارية، في حجرها عود، فلما دخل الشعبي، أمرها فوضعت العود، فقال له الشعبي: لا ينبغي للأمير أن يستحي من عبده، قال: صدقت، ثم قال للجارية: هات ما عندك، فأخذت عودها وغنت:
ومما شجاني أنها يوم ودعت ... تولت، وماء العين في الجفن حائر
فلما أعادت من بعيد بنظرة ... إلي التفاتاً، أسلمته المحاجر
فقال الشعبي الصغير أكيسهما يريد الزير، ثم قال لها: يا هذه، أرخي من فمك، واشددي في زيرك، قال له بشر: وما علمك؟ قال: أظن العمل فيهما، قال: صدقت، ومن لم ينفعه ظنه لم ينفعه يقينه.
وقال الأصمعي: قدم أعرابي بعدل من خمر العراق إلى المدينة، فباعها إلا السود، فشكى ذلك إلى الدرامي، وكان قد تنسك، وترك الشعر، ولزم المسجد، فقال له: ما تجعل لي على أن أحتال لك بحيلة حتى تبيعها كلها؟ قال: حكمك، فعمد الدرامي إلى ثياب نسكه فألقاها عنه، وعاد إلى مثل شأنه الأول، وقال شعراً ودفعه إلى صديق له من المغنين، وقال له: تغن بهذا الشعر:
قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا أردت بزاهد متعبد
قد كان شمر للصلاة رداءه ... حتى وقفت له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وصيامه ... لا تفتنيه بحق دين محمد
فشاع هذا الغناء بالمدينة، وقالوا: قد رجع الدرامي، وتعشق صاحبة الخمار الأسود، فلم تبق مليحة بالمدينة إلا اشترت خماراً أسود، وباع التاجر ما كان معه، فكان إخوان الدرامي من النساك يلقون الدرامي فيقولون له: ما صنعت؟ فيقول: ستعلمون نبأه بعد حين، فلما أنفذ العراقي ما كان معه، رجع الدرامي إلى نسكه وثيابه فلبسها.
وقال الأحوص يوماً لمعبد: امض بنا إلى عقيلة نتحدث معها، ونستمع من غنائها، وغناء جواريها، فمضيا، فألفيا على بابها معاذ الأنصاري وابن صياد، فاستأذنوا عليها، فأذنت لهم إلا الأحوص، فقالت: نحن على الأحوص غضاب فانصرف الأحوص وهو يلوم أصحابه على استبدادهم بها، وقال:
ضنت عقيلة عنك اليوم بالزاد ... وآثرت حاجة الثاوي على الغادي
قولا لمنزلها: حييت من طلل ... وللعقيق، ألا حييت من وادي
إني وهبت نصيبي من مودتها ... لمعبد ومعاذ، وابن صياد
وخرج أبو السائب مع عمر بن أبي ربيعة متنزهاً إلى بعض نواحي مكة، فذهب أبو السائب ليبول، وعليه طويلة، فرجع دونها، فقال له ابن أبي عتيق؛ ما فعلت طويلتك؟ قال: ذكرت قول كثير عزة:
أرى الإزار على لبنى فأحسده ... إن الإزار على ما ضم محسود
فتصدقت بها على الشيطان الذي أجرى هذا البيت على لساني، فأخذ ابن أبي عتيق طويلته، ورمى بها وقال: إلى من تقدمته أنت إلى بر الشيطان.
وقال الأصمعي: كان أبو الطمحان شاعراً مجيداً، وكان يطلب الإذن على يزيد بن عبد الملك، فلم يصل إليه، فقال لبعض المغنين: ألا أعطيك بيتين من الشعر تغني بهما أمير المؤمنين، فإن سألك من قالها، فأخبره أني بالباب، فما رزقني الله منه فهو بيني وبينك، قال: هات، فأعطاه هذين البيتين:
يكاد الغمام الحر يرعد أن رأى ... محيا ابن مروان، وينهل بارقه
يظل فتيت المسك في رونق الضحى ... تسيل به أصداغه ومفارقه
قال: فغناه بهما في وقت أريحيته، وطرب لهما طرباً شديداً وقال: لله قائلهما، من هو؟ قال: أبو الطمحان، وهو بالباب يا أمير المؤمنين، قال: ما أعرفه، فقال بعض جلسائه: هو صاحب الدير يا أمير المؤمنين، قال: وما قصة الدير؟ قال: قيل لأبي الطمحان: ما أيسر ذنوبك؟ قال: ليلة الدير قيل له: وما ليلة الدير؟ قال: نزلت ليلة دير نصرانية، فأكلت عندها طفيشلا بلحم خنزير، وشربت من خمرها، وسرقت كساءها ومضيت، فضحك يزيد، وأمر له بألفي درهم، وقال: لا يدخل علينا، فأخذ أبو الطمحان الألفين، وانسل بهما وخيب المغني.
وقال إبراهيم الموصلي: دخلت على هارون الرشيد، فلما رأيته قد أخذ في حديث الجواري وغلبتهن على الرجال، غنيته بأبياته التي يقول فيها:
ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان
ما لي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ...
وبه قوين
أعز من سلطاني