للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ودخل عبادة المغني دار المتوكل، فرأى فيها رطباً قد تساقطت، فجعل يلتقطها، فمد أحد أولاد المتوكل يده إلى است عبادة، وقال له: يا عبادة، من فتح لك هذه الثقبة؟ قال عبادة: الذي فتح لأمك ثقبتين، فشكاه إلى أبيه، فأمر أن يؤتى به فخرج عبادة فاراً بنفسه، فبينما هو يسير، إذ رأى غاراً فدخل فيه، وبنى عليه بحجارة، ودخل إلى قعره فإذا بأسد الفتح بن خاقان متصيداً، فمر بذلك الموضع، فسمع صوت الطنبور، في داخل الغار، فقال: اهدموه، فلما فتح خرج الأسد عليهم فاراً بنفسه، وعبادة من خلفه، فقال: ما هذا يا عبادة؟ قال: إن أمير المؤمنين جعلني هنا أعلم هذا الأسد ضرب الطنبور، وقد نفرتموه علي، وأنا أحشى عقوبته، ولا آمن أن يقتلني عليه، فقال الفتح: لا تخف، أنا أستوهب ذنبك، وأنسب الذنب في ذلك إلى نفسي، فرجع معه إلى المتوكل، فقال الفتح: يا أمير المؤمنين، إني استوهبتك عبادة؛ فقد ضمنت له النجاة، وإن الذنب الذي أذنب، أنا أذنبته، قال: والله ما غرضي إلا أن أقتله؛ لأن ذنبه كبير، حمله عليه كثرة الدالة علينا، حتى تعرض لحرمنا، فقال الفتح: وكيف ذلك؟ فقال له: ما تقدم من قوله، فقال الفتح: العفو يا أمير المؤمنين، والله ما علمت بذلك، ولكن اتفق لي معه كذا وكذا، فضحك المتوكل عند ذلك، وأمر بإحضاره.

وكان محمد بن جعفر بخيلاً، فجلس يوماً مع ندمائه، فقال بعضهم: ما في الأرض أمشى مني، فقال ابن جعفر: وما يمنعك من ذلك وأنت تأكل أكل عشرة أنفس، وهل يحمل الرجلين إلا البطن، فقال آخر: أنا والله لا أقدر أن أمشي، فقال له: وكيف تستطيع المشي، وأنت تحمل في بطنك ما يثقل ثلاثين رجلاً، وهل ينطلق مشي الإنسان إلا بخفته، فقال الآخر: أما أنا فما نمت البارحة من وجع ضرس، فقال: وكيف لا تشتكي، وأي ضرس يصبر على الدق والطحن مثل ضرسك؟ فقال آخر: ما اشتكيت قط ضرسي، وما تخلخل من موضعه، فقال له: ذلك من كثرة المضغ؟ فإنه يشد الأسنان، ويقوي اللثة، وقال آخر: ما أظن أحداً أكثر شرباً للماء مني، وما أروى منه، فقال: لابد للبطن من الماء حتى يبله ويرويه، وأما أنت والله لو شربت الفرات ما استكثرته لك؛ لما أرى من كثرة أكلك، فقال آخر: وأنا لا أشرب ماء، فقال: لكثرة ما تأكل؛ لأن البطن إذا امتلأ لم يحتج لشيء، فقال آخر: والله ما أنام من الليل إلا قليلاً، فقال له: وكيف تدعك التخمة تنام؟ أتدري أن من أكل كثيراً وشرب غزيراً لا يكون ليله كله إلا يسحل ويبول؟ فقال آخر: أما أنا فإني أنام الليل كله، قال: أمارة على الشبع؛ لأن الطعام إذا كثر في البطن يسكن البدن والأعضاء، ويملأ العروق، فيسترخي منه كل شيء، وقال آخر: أصبحت لا أشتهي شيئاً، فقال: إياك أن تأكل قليلاً ولا كثيراً؛ فإن القليل على غير شهوة أضر من الكثير على شهوة، وإياك من الأكل الكثير؛ فإنه يتخم، وأكثر ما يكون الموت من التخمة، فعليكم بالإقلال من الطعام والشراب في كل الأزمان.

وكان بالكوفة رجل يقال له مصلح، فبلغه أن بالبصرة رجلاً من المصلحين مقدماً في شأنه، فسار الكوفي إلى البصرة، فلما قدم عليها قال له: من أنت؟ قال: أنا مصلح، جئتك من الكوفة؛ لما بلغني خبرك، فرحب به، وأدخله موضعه، وخرج يشتري له ما يأكل، فأتى جباناً فقال له: أعندك جبن؟ قال: عندي جبن كأنه سمن، فقال في نفسه: لم لا أشتري سمناً حين هو يضرب به المثل؟ فذهب إلى من يبيع السمن، فقال له: أعندك سمن؟ قال: عندي سمن كأنه زيت، فقال في نفسه: لم لا أشتري زيتاً حين هو يضرب به المثل؟ فذهب إلى زيات، وقال: أعندك زيت؟ فقال: عندي زيت صاف كأنه الماء، فقال في نفسه: لم لا آخذ ماء حين يضرب به المثل؟ فرجع إلى بيته، وأخذ صحفة وملأها ماء، وقدمها للضيف مع كسيرات يابسة، وعرفه كيف جرى له، فقال الكوفي: أنا أشهد أنك بالإصلاح أحق من أهل الكوفة.

<<  <   >  >>