وحكى المدائني قال: خطب رجل من بني كلاب امرأة، فقالت أمها: دعني أسأل عنك، فانصرف الرجل، فسأل عن أكرم الحي، فدل على شيخ منهم، كان يحسن المحض في الأمر، فأتاه وسأله أن يحسن عليه الثناء وانتسب له فعرفه، ثم إن العجوز غدت عليه، فسألته عن الرجل، فقال: أنا أعرف الناس به، قالت له: كيف لسانه؟ فقال: مدره قومه وخطيبهم، قالت: فكيف شجاعته؟ قال: منيع الجار، حامي الذمار، قالت: فكيف سماحته؟ قال: ثمال قومه وربيعهم، وأقبل الفتى، فقال الشيخ: ما أحسن - والله - سلم، ما دار ولا بار، ثم جلس فقال: ما أحسن - والله - ما جلس ما دنا ولا نأى، وذهب الفتى ليتحوط، فأخرج ريحاً فقال: ما أحسن - والله - ما أغنها، وما أطنها، ولا بربرها، ولا فرفرها، ونهض الفتى خجلاً، فقال: ما أحسن - والله - ما نهض، ما أبطأ ولا أسرع، فقالت المرأة: حسبك بهذا، وجه إليك من يرده، فوالله، لو سلح في ثيابه لزوجناه.
وسمع بعض الملوك أن ملك الروم المجاور له عزم على أن يدخل أرضه ويحصر بعض بلاده، فأراد أن يبعث إليه رسولاً، يطلب منه الصلح، فشاور وزراءه، ونبهاء فرسانه فيمن يبعث إليه، فأشار عليه كل واحد منهم برجل من كبار خدامه، ونبهاء فرسانه، وسكت منهم واحد، فقال له الملك: لم سكت؟ قال: لا أرى أن ترسل واحداً ممن ذكروا، قال: فمن ترى أن ترسل؟ فقال له: فلان، وذكر له رجلاً غير وجيه، ولا مشهور بنباهة ولا بفصاحة، فقال له الملك: أتهزأ بي في مثل هذا؟ وظهر عليه الغضب، فقال له: معاذ الله يا مولاي، ولكنك تريد أن تبعث إليه من نرجو رجوعه، مقضي الحاجة، قال: وذلك مرادي، قال: وإني فكرت ونظرت فلم أجد غير ذلك الرجل؛ لأنك وجهته في كذا فأنجح، وفي كذا فقضيت حاجته، وما ذلك إلا بنجحته، لا بفصاحته، ولا نباهته ولا شجاعته، فقال له: صدقت، وأمر أن يوجه عنه، فجاءه، وأمر أن يدفع إليه كل ما يحتاج إليه في السفر، فدفع إليه، وخرج، فسمع ملك الروم أن يأتيه رسول، فقال لخدامه: إن هذا الرسول الذي هو يأتي من أكبر من عند المسلمين، فإذا وصل فأدخلوه قبل إنزاله، فإن فهم عني ما أقوله له أنزلته، وقضيت حاجته، وإن لم يفهم عني، لم أنزله، ورددته غير مقضي الحاجة، فلما وصل أدخل عليه، فلما سمع عليه أشار إليه ملك الروم بأصبعه الواحد إلى السماء، فأشار ذلك الرجل بأصبعه إلى السماء والأرض، فأشار النصراني بأصبعه قبالة وجه الرجل، فأشار الرجل بأصبعين قبالة وجه النصراني، فأخرج النصراني زيتونة من تحت بساطه، وأشار بها إلى الرجل، فأخرج الرجل بيضة من تحته وأشار بها إليه، فطابت نفس النصراني وأمر بإنزاله وإكرامه، ثم سأله: فيم جاء؟ فأخبره، فقضى حاجته وصرفه، فقيل للنصراني: ما قلت له حتى فخمك، وقضيت حاجته؟ فقال: ما رأيت أفهم منه ولا أحذق، أشرت له بأصبعي إلى السماء، أقول له: الله واحد في السماء، فأشار لي بأصبعه إلى السماء وإلى الأرض يقول لي: هو في السماء وفي الأرض، ثم أشرت له بأصبعي قبالته أقول له: جميع ما ترى من الناس إنما أصلهم واحد وهو آدم، فأشار إلي بأصبعين يقول لي: أصلهم آدم وحواء، ثم أخرجت له زيتونة أقول له: انظر، ما أغرب حال هذه، فأخرج هو بيضة، وقال: حال هذه أغرب من تلك؛ لأنه يخرج منها حيوان، فهي أعجب، فلذلك قضيت حاجته، فقيل بعد ذلك للرجل: ما الذي قال لك النصراني حين أشار إليك وفهمته؟ قال: والله، ما رأيت أثقل روحاً، ولا أجهل من ذلك النصراني ساعة وصولي إليه، يقول لي: آخذك في طرف أصبعي وأرفعك هكذا، فقلت له: أنا أرفعك بأصبعي هكذا، وأنزلك في الأرض هكذا، فقال لي: أخرج عينك بأصبعي هكذا، فقلت له: أنا أخرج عينيك الاثنتين بأصبعي هذين، فقال: ليس معي ما أعطيك إلا هذه الزيتونة، بقيت من غدائي، قلت له: يا محروم، وأنا أخير منك، فإني بقي لي من غدائي هذه البيضة، ودفعتها له، ففزع مني وقضى حاجتي.