للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكان بالكوفة رجل مشهور بالبرد. فسمع أن بالبصرة رجلاً آخر أبرد منه، فقال: لابد أن أختبره، حتى أرى من أبرد منا، فأخذ كراريس من الكاغد كثيرة، وصنع منها سفراً كبيراً وسفره وكتب فيه: سلام عليكم، وفرق الحروف في بعض الأوراق وترك سائرها بياضاً، ودفعه لميار، وقال: تدفعه بالبصرة لفلان، وتطلب منه الجواب، فأخذه الميار، وذهب إلى البصرة، وسأل عن الرجل، فدل عليه، فأتاه، ودفع إليه السفر وقال له: أريد جواب ما فيه، قال: نعم، غداً إن شاء الله، ثم فتحه فوجد أوراقه بيضاً، فجعل يحول الأوراق، فوجد السين ثم اللام حتى كمل سلام عليكم، ولم يجد غير ذلك، ففكر في نفسه، فعلم أن ذلك من فعل بارد مثله يرى أن يقيسه فذهب إلى نجار، وقال له: اعمل لي تابوتاً كبيراً، فعمله له، فلما عاد الميار يطلب الجواب، قال له: تأتي غداً، وتأخذ هذا التابوت وتحمله للذي لك الكتاب وتقول له: هذا جوابك، وهذا مفتاح التابوت تدفعه له، ثم دفع أجرته، وقال: إني أسافر الليلة، فإذا كان غداً فأت إلى هنا، وخذ التابوت، فيه ما يحتاج من المأكول والمشروب، وغلقه، وإذا بالميار قد جاء، فأخذ التابوت وذهب، فلما وصل إلى الكوفة أتى الرجل الذي دفع له الكتاب: فقال: هذا التابوت جواب كتابك، ثم دفع له المفتاح ففتحه، فخرج منه الرجل، وقال وعليكم السلام ورحمة الله، فقال له: أشهد أنك أبرد مني ومن جميع الناس.

وحكى أبو عبد الله بن عبد البر المدني بمصر قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم عن الهيثم بن عدي قال: كان بالمدينة رجل من بني هاشم، وكانت له قينتان يقال لإحداهما: رشأ وللأخرى جؤذر، وكان يعجبه السماع، وكان بالمدينة مضحك، لا يكاد يفارق مجالس المتظرفين، فأرسل الهاشمي إليه ذات يوم ليضحك به، فلما أتاه قال له المضحك: أصلحك الله، أنت في لذتك، ولا لذة لي، قال: وما لذتك؟ قال: تحضر لي نبيذاً؛ فإنه لا يطيب لي عيش إلا به، فأمر الهاشمي بإحضار نبيذ، وأمر أن يطرح فيه سكر، فلما شربه المضحك، تحركت عليه بطنه، وتناوم عنه الهاشمي، وغمز جاريتيه عليه، فلما ضاق عليه الأمر، واضطر إلى البراز، قال: ما أظن هاتين المغنيتين إلا يمانيتين، وأهل اليمن يسمون الكنف المراحض، فقال لهما: يا حبيبتي، أين المرحاض؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول؟ قالت: يقول غنياني:

رحضت فؤادي فخليتني ... أهيم من الحب في كل واد

فاندفعتا تغنيانه، فقال في نفسه: ما أراهما فهمتا عني، أظنهما مكيتين، وأهل مكة يسمونه المخارج، فقال: يا حبيبتي، أين المخرج؟ فقالت إحداهما: ما يقول؟ قالت: يقول غنياني:

خرجت بها من بطن مكة، بعد ما ... أقام المنادي بالعشاء فأعتما

فاندفعتا تغنيانه، فقال في نفسه: لم تفهما علي، أظنهما شاميتين، وأهل الشام يسمونها المذاهب، فقال لهما: يا حبيبتي، أين المذهب؟ فقالت إحداهما: ما يقول؟ قالت: يقول غنياني:

ذهبت من الهجران في كل مذهب ... ولم يك حقاً كل هذا التجنب

فغنتاه الصوت، فقال في نفسه: لم تفهما عني، ما أظنهما إلا مدينتين، وأهل المدينة يسمونه: بيت الخلاء، فقلت لهما: يا حبيبتي، أين بيت الخلاء؟ فقالت إحداهما: ما يقول؟ قالت: يسأل أن يغنى:

خلى علي أخو الأحزان إذ ظعنا ... من بطن مكة، ألتسهيد والحزنا

قال: فغنتاه، قال: (إنا لله وإنا إليه راجعون) ، ما أحسب الفاسقتين إلا بصريتين، وأهل البصرة يسمونها الحشوش، فقال: أين بيت الحش؟ فقالت إحداهما: ما يقول؟ قالت: يسأل أن يغنى:

أوحش الخبران فالربع منها ... فمناها، فالمنزل المعمور

فاندفعتا تغنيانه، فقال: ما أراهما إلا كوفيتين، وأهل الكوفة يسمونها الكنف، فقال لهما: أين الكنيف؟ فقالت إحداهما: نعس سيدنا، هل رأيت أكثر اقتراحاً من هذا الرجل، قالت: ما يقول؟ قالت: يسأل أن يغنى:

تكنفني الهوى طفلا ... فشيبني، وما اكتهلا

قال: فغلبته بطنه، وعلم أن ذلك منهما ازدراء عليه، والهاشمي يتقطع ضحكاً، فقال لهما: كذبتما يا زانيتين، أعلمكما ما هو؟ فرفع ثيابه وسلح عليهما، وانتبه الهاشمي، فقال: سبحان الله، أتسلح عن وطائي؟ قال: الذي خرج مني أعز علي منه؛ إن هاتين الزانيتين حسبتاني أني أسأل عن الحش لإخراج الريح، فأعلمتهما ما هو.

<<  <   >  >>