وكان ابن هرمة مولعاً بالشراب، فحد فيه مراراً، فأتى المنصور ومدحه، فاستحسن شعره، وقال له: سل حاجتك، قال: تكتب إلى عامل المدينة ألا يحدني إذا أوتي بي سكران، فقال له المنصور: ويلك، هذا حد من حدود الله عز وجل، لا يجوز لي تعطيله، قال: فاحتل يا أمير المؤمنين، قال: أما هذا فنعم، وكتب إلى عامل المدينة: من أتاك بابن هرمة وهو سكران، فاجلده مائة واجلد ابن هرمة ثمانين، فكان العون بعد ذلك يمر به وهو سكران، فيقول ابن هرمة: من يشتري مائة بثمانين؟ وحكى ابن دهمان قال: مررت يوماً ببشار، وهو جالس على بابه وحده، وليس معه أحد، وبيده قضيب، وبين يديه طبق فيه تفاح وأترج، فلما رأيته، وليس معه أحد، جئت قليلاً قليلاً، ومددت يدي لأتناول ما بين يديه، فرفع القضيب، وضرب يدي ضربة كاد يكسرها، قلت: قطع الله يدك، أنت الآن عند نفسك أعمى، قال: يا أحمق، فأين الحس؟ وحكى المدائني عن محمد بن حجاج قال: كنا عند بشار بن برد الضرير، فأتاه رجل يسأله عن منزل رجل، قال: فجعل بشار يصف له ويفهمه، وهو لا يفهم، فوثب بشار، وأخذ بيده، وجعل يقول:
أعمى يقود بصيراً، لا أبالكم ... قد ضل من كانت العميان تهديه
وحاسب بشار يوماً وكيله، وذكر في بعض حسابه عشرة دراهم في جلاء مرآة، فقال بشار - وصفق بيديه -: واغوثاه، جلاء مرآة لأعمى بعشرة دراهم، والله لو صديت عين الشمس، حتى يبقى الناس في ظلمة، ما ساوى جلاؤها عندي عشرة دراهم.
وكان أبو العتاهية يهوى عتبة، فلبس يوماً ثياب راهب، ووقف على طريق عتبة، ولما مرت به، قال: أنا راهب، وكنت في صومعة منذ سنين كثيرة، وأتاني أت في منامي، وأمرني بالإسلام على يديك، وتقبيل يديك، ولست أبغي منك على ذلك جزاء ولا شكوراً، فسرت بذلك، ومدت يدها اليمنى وقبلها وقال: إنما أمرت بتقبيل يدك اليسرى، فمدتها وقبلها، وقال: بأبي أنت من يد قريبة العهد بأحب المواضع إلي، قالت: ماجن ورأس المهدي.
وحكى المبرد أن عتبة جاءت إلى عبد الله بن مالك برسالة ريطة بنت أبي العباس في مماليك لتشتريهم وتعتقهم، وإذا بأبي العتاهية قد دخل وهي لا تعرفه، وقال: إني - جعلني الله فداك - شيخ ضعيف وموالي يسيئون ملكي، فإن شئت أن تأمريه يجعلني فيمن يعتق، فكلمت عبد الله بن مالك في ذلك، فقال: أفعل إن شاء الله، فقال لها أبو العتاهية: قد أحسنت وتفضلت فأذني في تقبيل يدك، فمدت يدها فقبلها وانصرف، فقال عبد الله بن مالك: أتدرين من هو؟ قالت: لا، قال: هذا أبو العتاهية، فاستحيت وقالت: يا أبا العباس، ما ظننتك تعبث مثل هذا العبث.
وقرأ الحجاج في سورة هود، فلما انتهى إلى ابن نوح، لم يدر كيف يقرأ (إنه عمل غير صلح) أو عمل غير صالح، فبعث حرسياً، فقال: ائتني بقارئ، فذهب وأتى به، وقد ارتفع الحجاج من مجلسه، فحبسه ونسيه، حتى عرض الحجاج حبسه بعد ستة أشهر، فلما انتهى إليه قال: فيم حبست؟ قال: في ابن نوح، أصلح الله الأمير، فأمر بإطلاقه.
وكتب زياد إلى معاوية: قد أخذت العراق بشمالي، وبقيت يميني فارغة، وهو يعرض له بالحجاج، فبلغ ذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنه، فرفع يديه إلى السماء وقال: اللهم اكفنا يمين زياد، فخرجت به قرحة في يمينه، قتلته.
وقال خالد بن الوليد عند موته: لقد لقيت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي قيس شبر، إلا وفيه طعنة أو ضربة أو رمية، ثم هاأنذا أموت على فراش، حتف أنفي، فلا نامت أعين الجبناء.
ووعظ مالك بن دينار فبكى وأبكى أصحابه، ثم افتقد مصحفه، فلم يجده، فنظر إلى أصحابه، وكلهم يبكي، فقال: كلكم تبكون، فمن أخذ مصحفي؟ ودخل أبو العيناء على إبراهيم بن المدبر، وعنده الفضل بن اليزيد وهو يلقي على ابنه مسائل في النحو، فقال: في أي باب هذا؟ فقال: في باب الفاعل والمفعول به، فقال: هذا بابي وباب الوالدة، حفظها الله، فغضب الفضل وانصرف.
وقال له ابن مكرم يوماً: أنا أجمع بين الصلاتين، قال: نعم، بالترك.
وكان أبو يوسف يكتب كتاباً، وإلى جانبه رجل يتطلع عليه، ففطن به أبو يوسف، فلما فرغ من الكتاب، التفت إلى الرجل، وقال له: هل أبصرت فيه خطأ؟ فقال: لا، قال أبو يوسف: جزيت عن الجساسة خيراً.