للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكان أعرابي قد تعشق جارية، فقيل له: ما كنت صانعاً، لو ظفرت بها، ولا يراكما غير الله؟ قال: إذن، والله، لا أجعله أهون الناظرين، لكني كنت أفعل بها ما كنت أفعله بحضرة أهلها، شكوى، وحديث عذب، وأعراض عما يسخط الرب، ويقطع وصل المحبوب، إذا سمح لمثال هذا، فعصيان النصيح واجب.

وحكي عن بشار الطفيلي أنه قال: رحلت إلى البصرة، فلما دخلتها، قيل لي: إن هنا عريفاً للطفيليين، يبرهم ويكسوهم، ويرشدهم إلى الأعمال، ويقاسمهم، فسرت إليه فبرني وكساني، وأقمت معه ثلاثة أيام، وله خلق يأتونه بما يأخذون، فيأخذ النصف ويعطيهم النصف، فوجهني معهم في اليوم الرابع، فحصلت في وليمة، فأكلت وأخذت شيئاً كثيراً، فجئته به، فأخذ النصف وأعطاني النصف، فبعت ما وقع لي بدراهم، فلم أزل على هذا أياماً، ثم دخلت يوماً على عرس جليل، فأكلت، وخرجت بشيء كثير، فجئته به وأعطاني النصف، فلقيني إنسان، فاشتراه مني بدينار، فأخذته وكتمت أمره، وأخذ جماعة الطفيليين وقال: إن هذا الطفيلي البغدادي خان، وظن أني لا أعلم ما فعل، فاصفعوه وعرفوه ما كتمنا، فأجلسوني شئت أم أبيت، فما زالوا يصفعوني واحداً بعد واحد، يصفعني الأول منهم ويشتم يدي ويقول: أكلت مصيرة، ويصفعني الآخر ويشم يدي ويقول: أكلت بقيلة، حتى ذكروا كل شيء أكلته، ما غلطوا بزيادة ولا بنقصان، ثم صفعني شيخ منهم صفعة عظيمة وقال: بعت ما أخذت بدينار، وصفعني آخر وقال: هات الدينار، فدفعته إليه، وجردوني الثياب التي أعطانيها، وقال: أخرج يا خائن في غير حفظ الله، فخرجت إلى بغداد، وحلفت ألا أقيم ببلد، طفيليوها يعلمون الغيب.

وكان إبراهيم بن المدبر عاملاً على البصرة، وكان له ندماء، لا يأنس بغيرهم، وكل واحد منهم منفرد بنوع من العلم، وكان طفيلي يعرف بابن الدراج، من أكمل الناس أدباً وأخفهم روحاً، فاحتال ودخل في جملة الندماء، ودخل إبراهيم فرآه، فقال لحاجبه: قل لذلك الرجل: ألك حاجة؟ فسقط في يد الحاجب، وعلم أن الحيلة تمت عليه، وأنه لا يرضى ابن المدبر من عقوبته إلا بقتله، فمر يجرر رجليه، فقال له: يقول لك الأستاذ: ألك حاجة؟ فقال: قل له: لا، فأدخله عليهم، فقال له: أنت طفيلي؟ فقال: نعم، أصلحك الله، فقال: إن الطفيلي يحتمل في دخوله بخصال، منها أن يكون لاعباً بالشطرنج، أو بالنرد، أو ضارباً بالعود، أو بالطنبور، فقال: أيدك الله، أنا لما ذكرته في الطبقة العليا، فقال لبعض الندماء: لاعبه بالشطرنج، قال: أعزك الله فإن غلبت؟ قال: أخرجناك، قال: وإن غلبت، قال: أعطيناك ألف درهم قال: أحضرها؛ فإن في حضورها قوة للنفس، فلعبا، فغلب الطفيلي، ومد يده لأخذ الدراهم، فقال الحاجب: أعزك الله، ذكر أنه في الطبقة العليا، وإن غلامك فلاناً يغلبه، فحضر الغلام فغلبه، فقيل له: انصرف، فقال: أحضروا النرد، فلوعب به فغلب الطفيلي، فقال الحاجب: لكن فلاناً بوابنا يغلبه، فأحضر البواب فغلبه فقيل له: أخرج. فقال: علي بالعود، فأعطى عوداً، فضرب فأصاب، وغنى فأطرب، فقال الحاجب: يا سيدي، إن في جوارنا شيخاً يعلم القيان، هو أحسن منه، فأحضر، فكان أطيب منه، فقيل له: أخرج، فقال: فالطنبور، فأحضر، فضرب ضرباً لم ير أحسن منه، فقال الحاجب: إن فلاناً أطيب منه، فأحضر، فكان أحذق منه، فقال ابن المدبر: قد تقصينا لك بكل جهد، فأبت حرفتك إلا طرحك، قال: يا سيدي، بقيت معي فائدة حسنة، قال: وما هي؟ قال: تأمر أن تحضر قوس بندق، مع خمسين بندقة من رصاص، ويقام هذا الحاجب، فأرميه في دبره، فإن أخطأته بواحدة، فاضرب عنقي، فضج الحاجب، ووجد ابن المدبر شفاه نفسه في عقوبته، فأمر بخشبتين، وشد الحاجب فوقهما، وأعطى الطفيلي القوس، فرماه بخمسين بندقة، فما أخطأ دبره بواحدة، وخلا الحاجب يتأوه لما به، فقال له الطفيلي: يا قرنان هل على باب الأستاذ من يحسن شيئاً من هذا؟ فقال له الحاجب: أما ما دام الغرض استي، فلا، وذهب الضحك بابن المدبر وأصحابه كل مذهب، ثم أعطاه ألف درهم، وانصرف.

<<  <   >  >>