للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وصاحب طفيلي رجلاً في السفر، فلما نزلوا ببعض المنازل، قال له الرجل: خذ درهماً، وامض اشتر لنا لحماً، فقال الطفيلي: إني متعب، والله، ما أقدر، فمضى الرجل واشتراه، ثم قال للطفيلي: قم فاطبخه، قال: لا أحسن، فطبخ الرجل ثم قال له: قم فأثرد، فقال: أنا والله كسلان، فثرد الرجل، ثم قال له: قم الآن، فاغرفه، قال: أخشى أن ينقلب على ثيابي، فغرف الرجل حتى ارتوى الثريد، ثم قال له: قم الآن فكل، فقال: نعم، إلى متى هذا الخلاف، قد، والله، استحييت من كثرة خلافي عليك، وتقدم فأكل.

ووجه المأمون في جماعة من زنادقة البصرة، فجمعوا، فرآهم طفيلي، فمضى معهم، فأدخلوا في سفينة، فمضى معهم، وجيء بالقيود فقيد معهم، فقال: هذا آخر تطفيلي وأقبل عليهم فقال: فديتكم، أي شيء أنتم؟ قالوا له: بل من أنت، وهل أنت من أصحابنا؟ قال: والله، ما أعرفكم، غير أني طفيلي، خرجت من منزلي، فرأيت منظراً جميلاً، ونعمة ظاهرة، فقلت: شيوخ وكهول وشبان، ما اجتمع هؤلاء إلا لصنيع، فدخلت وسطكم، كأني أحدكم إلى هذا الزورق، فرأيته قد فرش ومهد، ورأيت سفراً مملوءة، فقلت: نزهة إلى بعض البساتين، إن هذا اليوم يوم مبارك، فزدت ابتهاجاً، إلى أن جاء هذا الموكل بكم، فقيدكم فطار عقلي، فما الخبر؟ فضحكوا وفرحوا به، وقالوا له: قد حصلت في الإحصاء، ونحن مانية على مذهب ماني القائل بالنور والظلمة، نسير إلى المأمون، فيسألنا عن مذهبنا، ويدعونا إلى التوبة، ويظهر لنا صورة ماني، ويأمرنا أن نبصق عليها، ونتبرأ منها، فمن أجابه نجا، ومن لم يجبه قتل، فإذا دعيت فأخبره باعتقادك، وللطفيلي مداخلات وأخبار، فاقطع سفرنا بها، فكان كذلك، فلما دخلوا على المأمون دعاهم بأسمائهم وامتحنهم، فأمر عليهم بالسيف، وبقي الطفيلي، وقد استوعب العدة، فسأل الموكلين بهم، فقالوا: وجدناه معهم، فجئنا به، فقال له: ما خبرك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، امرأته طالق، إن كنت أعرف من أقوالهم شيئاً، وإ، ما أنا رجل طفيلي، ثم قص قصته معهم، فضحك المأمون كثيراً، ثم أظهر له الصورة فلعنها، وتبرأ منها، وقال: أعطوها لي؛ حتى أسلح عليها، والله، ما أدري ما ماني، أيهودي هو أم مسلم؟ فقال المأمون: يؤدب على فرط تطفيله، ومخاطرته بنفسه، فقال: يا أمير المؤمنين، بحياتك، إن كنت ولابد عازماً، فاجعل السياط كلها على بطني، فهي التي حملتني على هذا الغرر، فعاد إلى الضحك، وكان إبراهيم بن المدبر واقفاً على رأسه، فاستوهبه منه بحديث في تطفيله، يذكر في باب الحكايات ذوات الأشعار.

وحكى المبرد قال: كان بالبصرة طفيلي مشهور، وكان ذا أدب، فمر على قوم عندهم وليمة، فاقتحم عليهم وأخذ مجلسه مع من دعي، فأنكره صاحب المنزل، فقالوا له: لو صبرت يا هذا حتى يؤذن لك، لكان أحسن لأدبك، وأجمل لمروءتك، فقال: إنما اتخذت البيوت ليدخل فيها، ووضعت الموائد ليؤكل عليها، والحشمة قطيعة، واطرحها صلة، وقد جاء في بعض الآثار: صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك.

وكان ملك من ملوك فارس، له وزير مجرب حازم، فكان يتعرف اليمن في مشورته، فهلك الملك، وأقام ابنه بعده، فلم يرفع له رأساً، فذكر له مكانته من أبيه، فقال: كان أبي يغلط فيه، وسأريكم ذلك، فأحضره، وقال له: أيهما أغلب، الأدب أو الطبيعة؟ فقال: الطبيعة؛ لأنها أصل، والأدب فرع، وكل فرع يرجع إلى أصله، فدعا الملك بسفرة، فوضعت، وأقبلت سنافير معلمة، بأيديها الشمع، فوقفت حول السفرة، فقال له: اعتبر خطأك، وضعف مذهبك، حتى كان أبو هذه السنانير شماعاً؟ فقال له: أمهلني في الجواب إلى الليلة المقبلة، قال: ذلك لك، وخرج الوزير، وأمر غلامه أن يسوق له فأرة، فساقها له حية، فربطت بخيط، فلما راح إلى الملك وضعها في كمه ودخل، فأحضرت السفرة والسنانير بالشمع، فألقى لها الوزير الفأرة، فاستقبلت إليها، فتطايرت الشمع، حتى كاد البيت يضطرم عليهم ناراً، فقال للملك: كيف رأيت، غلبت الطبيعة الأدب؟ قال: صدقت، ورجع إلى ما كان عليه أبوه.

<<  <   >  >>