ويحكى عن أمية بن أبي الصلت، أنه كان يشرب مع إخوان له في قصر غيلان بالطائف، إذ سقط غراب على شرفات القصر، فصاح صيحة، فقال له أمية: بغيك التراب، فقال له أصحابه: ما يقول؟ قال: يقول: إذا شربت الكأس التي بيدك مت، ثم صاح صيحة، فال أمية مثل ذلك، فقالوا له: ما يقول؟ قال: زعم أن علامة ذلك أن يقع غراب على تلك المزبلة أسفل القصر، فيأخذ عظماً، فيجش به فيموت، فبينما هم يتكلمون إذ وقع الغراب على المزبلة ليلتقط، فأخذ عظماً، فأراد أن يبتلعه، فجشي به فمات، فانتكس أمية، ووضع الكأس من يده وتغير لونه، فجعلوا يغيرون عليه ويقولون: ما أكثر ما سمعنا بمثل هذا، وكان باطلاً، فألحوا عليه حتى يشرب الكأس، فمال فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: لا بريء فأعتذر، ولا قوي فأنتصر، ثم فاضت نفسه.
وحكى الأصمعي قال: وجه عبد الملك بن مروان الشعبي إلى بعض ملوك الروم في بعض الأمر، فاستكبر الشعبي، فقال له: من بيت عبد الملك أنت؟ قال: لا، فلما أراد الرجوع إلى عبد الملك حمله رقعة لطيفة، وقال له: إذا بلغت صاحبك جميع ما يحتاج إلى معرفته من ناحيتنا، فادفع له هذه الرقعة، فلما رجع إلى عبد الملك ذكر له ما احتاج إلى ذكره ونهض، فلما خرج ذكر الرقعة، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه حملني إليك رقعة أنسيتها فدفعها إليه ونهض، فقرأها عبد الملك وأمر برده، فقال له: أعلمت ما في الرقعة؟ قال: لا، قال: قد عجبت من العرب كيف لم تملك مثل هذا؟ أفتدري لم كتب إلي بمثل هذا؟ قال: لا، قال: حسدني فيك فأراد أن يغريني بقتلك، فقال: لو رآك يا أمير المؤمنين ما استكبرني، فبلغ ذلك ملك الروم وما قال عبد الملك، فقال: لله أبوه، والله، ما أردت إلا ذلك.
وقال الأصمعي: أتي عبد الملك بن مروان برجل، كان مع بعض من خرج عليه فقال: اضربوا عنقه، فقال: يا أمير المؤمنين، ما هذا جزائي منك، قال: وما جزاؤك؟ قال: والله، ما خرجت مع فلان إلا بالتطير لك، وذلك أني رجل مشئوم، ما كنت مع رجل قط إلا غلب وهزم، وقد بان لك صحة ما ادعيت، وكنت عليك خيراً من مائة ألف معك فضحك، وخلى سبيله.
وقال دعبل: كنا يوماً عند سهل بن هارون وأطلنا الحديث، حتى أضر بنا الجوع، فدعا بغدائه، فإذا بصحفة فيها مرق ولحم ديك قد هرم، حتى ما يقطع فيه سكين ولا تؤثر فيه ضرس، فأخذ قطعة من خبز، وحرك المرق بها، ففقد الرأس، فبقي مطرقاً ساعة، ثم رفع رأسه إلى الغلام فقال: أين الرأس؟ قال: رميت به، قال: ولم؟ قال: ظننتك أنك لا تأكله، قال: ولم ظننت ذلك؟ فوالله إني لأمقت من يرمي برجله فضلاً عن رأسه، والرأس رئيس الأعضاء، وفيه الحواس الخمس، ومنه يصيح الديك، وفيه عيناه، وبهما يضرب المثل فيقال: شراب مثل عين الديك، ودماغه عجيب لوجع الكلية، فإن كان قد بلغ من جهلك أني لا آكله، فإن عندنا من يأكله، انظر: أين هو؟ قال: والله، ما أدري أين رميت به؟ قال: أنا والله، أدري، رميت به في بطنك.
وروي أن رجلاً كان جاراً لأبي دلف ببغداد، فأدركته حاجة وركبه دين حتى احتاج إلى بيع داره، فساموه فيها، فسألهم ألف دينار، فقالوا: إن دارك تساوي خمسمائة دينار، فقال: أبيع داري بخمسمائة دينار، وجوار أبي دلف بخمسمائة دينار، فبلغ أبا دلف الخبر، فأمر بقضاء دينه ووصله، وقال: لا تنتقل من جوارنا.
وكان الأعمش كثير الضجر والتبرم، فكثر عليه الشعر، فقال له تلامذته: لو أخذت من شعرك، فقال: لا نجد حجاماً يسكت، قالوا: نأتيك به، ونأخذ عليه أن يسكت حتى يفرغ، قال: افعلوا، فأتي بحجام، ووصي ألا يكلمه، فبدأ بحلقه فلما أمعن سأله عن مسألة، فنفض ثيابه، وقام بنصف رأسه محلوقاً حتى دخل بيته، فأخرج الحجام وأتي بغيره، فقال: والله، لا أخرج حتى تحلفوه، فحلف ألا يسأله، وحينئذ خرج.