وكان ابن الرومي الشاعر كثير التطير، فقرع البحتري يوماً عليه الباب، فقال: من هذا؟ فقال البحتري: سخط الحي القيوم، والمهل والغسلين والزقوم، يأخذ جميع الردم، وكل بلاء كان أو يكون إلى يوم الدين، فأغلق ابن الرومي بابه ولزم داره، فسأل عنه الموفق، فقيل له: في سجن البحتري وحده القصة.
وقيل لأبي أيوب صاحب المنصور: إنا نراك إذا دعاك أمير المؤمنين يتغير وجهك، ويضطرب حالك، فقال: مثلي معكم كباز قال لديك: ما رأيت أشر منك، تكون عند قوم من صغرك إلى كبرك، يطعمونك ويسقونك. فإذا أرادوا في وقت من الأوقات ينتقلون من دار إلى دار، وطلبوا أن ينقلوك معهم لم تمكنهم من نفسك إلا بعد جهد شديد، وأنا يرسلونني في الصحارى التي فيها ربيت والمواضع التي فيها نشأت، فأرجع إليهم، وأصيد طعمهم ولا أحتاج إليهم، قال له الديك: أنت لم تر قط بازاً في سفود، وأنا قد رأيت عشرين ديكاً في سفود مراراً كثيرة.
وحكى بعضهم قال: كانت أعرابية تحاجي الرجال، فلا يكاد أحد يغلبها، فأتاها جني في صورة إنسان، فقال لها: أحاجيك؟ قالت: قل، قال: كاد العروس أن يكون أميراً، قال: كاد، قالت: كاد المنتعل يكون راكباً، قال: كاد، قالت: كاد النعام يكون طائراً، قال: كاد، قالت: كاد الفقر يكون كفراً، قال: كاد، قالت: كاد المريب يقول خذوني، ثم أمسك، فقالت له: جاوبتك، فأين جوابي؟ فقال لها: قولي، فقالت: عجبت، قال: عجبت للسبخة كيف لا يجف ثراها، ولا ينبت مرعاها، فقالت: عجبت، قال: عجبت للحصى، كيف لا يكبر صغيره، ولا يهرم كبيره، فقالت: عجيب، قال: عجبت لحفرة بين فخذيك، كيف لا يدرك قعرها، ولا يمل حفرها، قال: فخجلت من جوابه، ولم تعد إلى ما كانت عليه.
ودخل سارق دار تاجر، وكان التاجر غائباً، واستخفى، ثم دخل آخر واستخفى، ولا يعلم الأول بالثاني، فلما جن الليل خرج السارق الأول، فذبح الخادم، ودخل على المرأة، وقال لها: هات ما عندك، فأحضرت له جميع مالها وحليها وحلفت له أن ذلك جميع ما على ملكها، فأراد ذبحها، فقالت: ولأي شيء تفعل هذا؟ وقد أعطيتك جميع ما عندي، فقال لها: لا يؤكل مال حي، وعزم على قتلها فبكت وخضعت، فأشفق عليها السارق الثاني، وخرج عليه بسرعة، فقتله، فدهشت منه، فقال لها: لا خوف عليك، والله، لا آخذ لك شيئاً، فناوليني فأساً أو مسحاة، فناولته، فحفر في الدار، ودفن السارق والخادم، وأراد الخروج، فرغبت إليه في معرفة موضعه، فعرفها لما جاء زوجها عرفته بما كان في غيبته، فمضى إليه وقاسمه ماله، وكان صديقه إلى الموت.
وحكى الحسن بن خضر عن أبيه قال: لما أفضت الخلافة إلى بني العباس، اختفى رجل من بني أمية يقال له: إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك حتى أخذ له أمان من بني العباس، فقال له أبو العباس يوماً: حدثني عما مر بك في اختفائك، فقال: كنت يا أمير المؤمنين متخفياً بالحيرة في منزل على الصحراء، فبينا أنا ذات يوم على باب بيتي، إذ نظرت إلى أعلام سود، قد خرجت من الكوفة تريد الحيرة، فوقع في نفسي أنها تريدني، فخرجت متنكراً، حتى دخلت الكوفة، ولا أعرف بها أحداً، فبقيت متحيراً، فإذا أنا بباب ورحبة واسعة، فدخلت الرحبة فجلست فيها فإذا رجل وسيم الوجه، حسن الهيئة على فرس، فدخل ومعه جماعة من أصحابه وأتباعه، فقال: من أنت وما حاجتك؟ فقلت: رجل يخاف على دمه، واستجار بمنزلك، قال: فصيرني في حجرة تلي حرمه، فمكثت عنده حولاً كاملاً في كل ما أحببت من مطعوم ومشروب وملبوس، لا يسألني عن شيء من مال ويركب في كل يوم، فقلت له يوماً: أراك تدمن الركوب، ففيم ذلك؟ فقال: إن إبراهيم بن سليمان قتل أبي صبراً، وقد بلغني عنه أنه مختف، فأنا أطلبه، فقلت: يا هذا، قد وجب حقك علي، ومن حقك أن أقرب عليك الخطوة، قال: وما ذلك؟ قال: أنا إبراهيم بن سليمان قاتل أبيك، فخذ بثأرك، فأطرق ملياً، ثم قال: أما أنت فستلقى أبي، فيأخذ بحقه منك، وأما أنا فغير مخفر ذمني، فاخرج عني؛ فلست آمن نفسي عليك، فأعطاني ألف دينار، فلم أقبلها منه، وخرجت عنه، فهذا أكرم رجل رأيت.