للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

دعاني في يوم شديد الحر فأقعدني في خيش غير مبلول على فراش أرمني كثير التراب، وقدم لي فجلية حارة، وسقاني نبيذا تمريا، متغير الرائحة، شديد الحرارة، وكان نقلنا تمرا شهريزا وحبة الخضراء، ثم قال لي: أعلمت أن أبى - رحمه الله وقد فعل، وأبقى والدتي وأيدها - لما مات ندم الخليفة أشد ندامة؟ قلت: ولم أقتله؟ قال: لا، قلت: فمات في حبسه؟ قال: لا، قلت: أفكان صادره فلما أخذ ماله اغتم فمات؟ قال: لا قلت: فما معنى ندم الخليفة، وقد مات أبوك حتف أنفه؟ قال: لا أدري، ولكن كذا حدثني ستي أمه العزيزة - جعلني الله وإياك فداها -.

قال: وبلغه أن عبيد الله بن سليمان ابتاع خادما أسود طباخا، فتوهم بركاكته أنه مزين، فكتب إلى عبيد الله رقعة فيها: أنا - أسعد الله الوزير - وإن لم أكن من العامة ولا الخاصة، فإنني أشفق على الوزير، وأحبه، وأراعي أموره، وأشتهي ما عاد بصلاح حاله، ولما اتصل بي خبر الخادم الذي اشتراه - عرف الله الوزير بركته وعضده بحياته - سررت سرورا شديدا حتى تجاوزت الحد، وخرجت عن الحق، وطاش عقلي في هدية تشاكله، فمن الله بها علي، وسهلها للوزير ببركتي عليه، وهي جونة كانت لمزين الشيخ - رضي الله عنه وأيد المزين فإنه باق - فاخترت من جملة ما فيها موسى ما مشى على رأس أحد بعد الشيخ، ويمشي على رأس الوزير بمشيئة الله تعالى، ومشطا ما اختلف في غير لحية الشيخ، ويختلف في لحية الوزير - أكرمه الله - ومناقشا ما نتف شارب أحد بعد الشيخ، وينتف شارب الوزير، ومحاجم ما وقعت على قفا أحد مذ مات الشيخ، وتقع على قاف الوزير - جعلت فداه - ومشراطا ما شق قفا أحد غير الشيخ ويشق قفا الوزير - بعون الله وقوته -.

وجعلت هذه التحفة في منديل مختوم نقش خاتمه حسن بن الكلبي بالله لا يشرك. فرأى الوزير في قبول هذه الهدية الظريفة التي تشبه وتليق به موفق - إن شاء الله تعالى-.

فلما وصلت الرقعة والهدية إلى عبيد الله، ووقف على الجميع استطير غضبا، وأمر بإحضار رسوله ليعاقبه، فلما دخل إليه، وعلم ما يراد به، قال: أيد الله الوزير، لا تظلمني بالعقوبة، فإني ألقى من جهل هذا الرجل وقلة عقله ونوكه، في كل يوم أضعاف هذا.

فصدقه جميع من كان في المجلس ولم يعاقبه، وتقدم بإخراج الخادم من داره، فقيل له: إنه نهاية في صنعة الطعام، فقال: والله لا أكلت من طعام طباخ ظن به أنه حجام.

وحدثنا أحمد بن جعفر قال: كان إسحاق بن أيوب التغلبي يحب بدعة جارية عريب المغنية حبا يتجاوز فيه حب المجنون ليلى وعروة لعفراء وبذل في ثمنها مالا جليلا، لا نعلم أن مثله بذل في ثم جارية بوجه ولا سب، فامتنعت مولاتها من بيعها. فلما يئس من ذلك كان يهدى إليها الهدايا النفيسة إلا انه ربما أهدى إليها شيئا يستجهله الناس، ويستركون عقله.

من ذلك أنه أهدى إليها وهو مقيم بديار ربيعة مكبة ذهب في منديل مختوم، وفي المكبة نصف وسط ذكر أنه استطابه فتنغص لهابه، فما وصل إليها حتى تغير فلم يكن للكلب فيه مستمتع.

ومن ذلك أيضا أنه أهدى إليها هدية جليلة فيها غلام من أحسن الغلمان قدا ووجها قد راهق أو قارب ذلك، فاستجهله كل من عرف الخبر، واتصل بالبسامي ذلك فقال:

عجب الناس من جهالة إسحا ... ق وفعل أتاه غير جميل

حين أهدى إلى الغزالة ظبيا ... ذا قوام لدن وخد أسيل

وفم مشرق الثنايا وألحا ... ظ مراض خلال طرف كحيل

أتراها تعف عنه إذا ما ... خلوا للعناق والتقبيل

وكأني بذيل "بدعة" قد صا ... ر طريقا للقرطق المحلول

قلت: لا تعجبوا فإن له ذع_را صحيح القيا غير عليل

بعدت دارها، وقام عليه ... فاشتهى أن سكها برسول

وحدثنا أبو القاسم علي بن أحمد الأصبهاني قال: كان عندنا بأصبهان رجل حسن النعمة، واسع النفس، كامل المروءة، يقال له: سماك بن النعمان وكان يهوى جارية مغنية من أهل أصبهان، لها قدر ومعنى تعرف "بأم عمرو" فلإفراط حبه إياها وصبابته بها، وهب لها عدة من ضياعه، وكتب عليه ذلك كتبا، وحمل الكتب إليها على بغل؛ فشاع الخبر بذلك، وتحدث الناس به واستعظموه.

<<  <   >  >>