وصل كتابك فسررت لك بالنعمة التي ذكرت ووقع إتحافك إيانا الموقع الذي أملت من قبول ذلك؛ ولولا أن السنة لنا جارية بترك تقديم من لم يكن لنا على الشريعة مواليا ما تركنا ما يحسن من مبرتك بالتقديم والاعتذار فهذا أحد التقديمين، وأنت له منا أهل.
وقد أهدينا إليك كتابا ترجمته "ديوان الأدب وبستان نوادر العقول" ومطالعتك ترجمته تحقق عندك فضيلة النعمة. وجعلنا لذلك عنوانا من الهدية وهو لطف استقللنا قدره لك؛ ولو كانت الملوك تتهادى على أقدارها لما اتسعت لذلك خزائنها؛ وإنما يجرى ذلك بينها على قدر تدل عليه النية بالتوطين - عن شاء الله تعالى - وكانت الهدية فرسا بفارسه وجميع آلاته من عقيق، ومائدة جزع فيها خطوط سود وحمر وخضر، على أرض بيضا، فتحتها ثلاثة أشبار وغلظها إصبعان، قوائمها ذهب؛ وخمسة أصناف كسوة بياض مصر، وخز السوس، ووشى اليمن، وملحم خراسان، والديباج الخسرواني وفرش قرمز (وفرش) سوسنجرد ومائة طنفسة حيرية بوسائدها.
كل ذلك خز وفرش خز سوسي، مائة قطعة من كل صنف.
وجام زجاج فرعوني فتحته شبر؛ في وسطه صورة أسد نبات، وأمامه رجل قد برك على ركبتيه، وفوق السهم في القوس نحو الأسد.
وكانت المائدة والجام مما أخذ من خزائن بني أمية؛ وكان الكتاب في طومار ذي وجهين؛ وغلظ الخط إصبع.
وحدثنا الوراق المراغي قال: كتبت برتا بنت الأوتاري ملكة فرنجة إلى المكتفي كتابا، ومعه هدايا شرحتها وكان الكتاب: - حفظك الله لسلطانه - أيها الملك الجيد العهد، القوي السلطان، من كل أعدائك، وثبت لك ملكك، وأدام سلامتك في بدنك ونفسك، منذ الآن إلى الأبد.
أنا برتا بنت الأوتاري، الملكة على جميع ملك الفرنجيين، أقرأ يا سيدي عليك السلام. واعلم أنه جرت بيني وبين ملك إفريقية صداقة لأني لم أكن أتوهم أن ملكا يكون فوقه يملك الأرض إلى هذه الغاية. فإن مراكبي كانت خرجت فأخذت مراكب ملك إفريقية؛ وكان رئيسها خادما يقال له "علي" أسرته ومائة وخمسين رجلا كانوا معه، في ثلاثة مراكب؛ ووجدته عاقلا فهما، فأعلمني أنك ملك على جميع الملوك. وقد كان صار إلى مملكتي خلق كثير لم يصدقني منهم عنك إلا هذا الخادم الذي يحمل كتابي إليك. وقد بعثت معه هدايا مما في بلدي، جعلتها تكرمة لك واستجلابا لمودتك؛ وهي: خمسون سيفا، وخمسون ترسا، وخمسون رمحا فرنجية، وعشرون ثوبا منسوجة بالذهب؛ وعشرون خادما، وعشرون جارية، وعشرة أكلب كبار لا تطيقها السباع، وسبعة بزاة، وسبعة صقور، ومضرب حرير بجميع آلاته؛ وعشرون ثوبا معمولة من صوف تكون في صدف يخرج من البحر يتلون ألوانا في كل ساعة من ساعات النهار، وثلاثة أطيار تكون ببلاد فرنجة، إذا نظرت إلى الطعام والشراب المسموم صاحت صياحا منكرا، أو صفقت بأجنحتها حتى يعلم بذلك. وخرز تجتذب به النصول والأزجة بعد بناء اللحم عليها بغير وجع.
وعرفني هذا الخادم أن بينك وبين ملك الروم المقيم بقسطنطينية صداقة. وأنا أوسع منه سلطانا وبلدا، وأكثر جنودا؛ لأن سلطاني على أربع وعشرين مملكة؛ كل مملكة لسانها مخالف للسان المملكة التي تليها؛ وفي مملكتي مدينة رومية العظمى.
وأنا أسأل الله العون على مصادقتك والصلح بيننا ما أحببت. فإن الأمر في ذلك إليك. وقد حملت هذا الخادم سرا يقوله لك إذا رأى وجهك، وسمع كلامك، ليكون هذا السر بيننا لا أحب أن يقف عليه غيري وغيرك. وعليك أكبر سلام وعلى جميع من معك؛ وكتب الله عدوك، وجعله وطاء قدميك. والسلام.
الباب الحادي عشر
في ذكر هدايا النوكي وتحف المتخلفين
حدثنا جحظة قال: كان ابن الكلبي الإخباري نهاية في التخلف والركاكة والنوك والبلادة؛ وكان عبيد الله بن يحيى بن خاقان يعنى به؛ فقلده الخبر بسر من رأى فكتب إلى المتوكل في بعض الأيام: اعلم، أمير المؤمنين، أطال الله بقاه أن امرأتي أم ولدي حسن -فديته - خرجت ومعها حبتها فلانة ابنة فلان إلى البستان الفلاني، وأن حبتها عربدت عليها، فضربت صدغها بقنينة نبيذ ففتحته فتحا عظيما. فصحف القارئ على المتوكل، فقال: صدعها (بالعين) ، فضحك المتوكل، وقال: ما بقى هذا غاية في الفضيحة.
قال جحظة: ولما مات خلف ابنه "حسنا"، وكان يفضله في التخلف، ويوفى عليه في البلادة ويتقدمه في الحمارية، فحدثني بعض الكتاب، قال: