قال أبو جعفر: فكان هذا الحديث أحسن من حديث ابن شهاب وأصح إسناداً، ثم تأملناه، فوجدنا فيه عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولهم: لا نطيق لا نستطيع، كلفنا من العمل مالا نطيق وما لا نستطيع، وكان ذلك منهم عندنا - والله أعلم - على أنه وقع في قلوبهم أن الله عز وجل أعلمهم بهذه الآية أنه يؤاخذهم بخواطر قلوبهم التي لا يستطيعونها ولا يملكونها من أنفسهم، فبين له عز وجل فيما أنزل بعد ذلك، فقال:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}[البقرة:٢٨٦] أي: لا يكلف الله نفساً ما لا تملكه، وبين بذلك أنه عز وجل إنما كان أراد بقوله:: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}[البقرة:٢٨٤] إنما هو ما يخفونه مما يستطيعون أن لا يخفوه، وما يبدونه مما يستطيعون أن يخفوه، لا الخواطر التي لا يستطيعون فيها إبداء ولا إخفاء، ولا يملكونها من أنفسهم.
وقد روي عن ابن عباس من غير حديث ابن مَرْجانة في تأويل هذه الآية قول يخالف هذا القول. كما عن مقسم. (١) عن ابن عباس في هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ. . .}[البقرة:٢٨٤] قال: من الشهادة.
قال أبو جعفر: فكان هذا التأويل عندنا غير صحيح، وكان التأويل الأول أولاهما بالآية، لأن كتمان الشهادة مما لا يغفر، لأنه حق من المشهود له. وفي الآية ما قد منع من ذلك، وهو قوله عز وجل:{فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}[البقرة:٢٨٤] والله عز وجل نسأله التوفيق.
(شرح مشكل الآثار-٤/ ٣١١ - ٣١٦)
(١) مِقْسَم هو: أبو القاسم مِقْسَم بن بُجْرة، قال فيه أبو حاتم: صالح الحديث، لا بأس به، وكانت وفاته سنة (١٠١ هـ). (تهذيب الكمال -٧/ ٢١٥).