ذُو لبوة مهول.
حَتَّى مثلُوا بَين يَدي النَّبِي، فلمّا دخلَ القومُ الْمَسْجِد.
وأبصرهم أهل المشهد.
دلف الْجَارُود أَمَام النَّبِي وحسر لثامه.
وَأحسن سَلَامه.
ثُمَّ أنشأ يَقُولُ:
(يَا نَبِي الْهدى أتتك رجال ... قطعت فدافدًا وآلا فآلا)
(وطوت نَحْوك الصحاصح طيًّا ... لَا تَخال الكلال فِيك كلالا)
(كل دهماء يقصر الطّرف عَنْهَا ... أرقلتها قلاصنًا أرقالا)
(وطوتها الْجِيَاد تجمع فِيهَا ... بكماة كأنجم تتلالا)
(تبتغي دفع بَأْس يَوْم عبوس ... أوجل الْقلب ذكره ثُمَّ هالا)
فَلَمَّا سمع النَّبِي ذَلِكَ فَرح فَرحا شَدِيدا وقربه وأدناهُ.
وَرفع مَجْلِسه وحياه.
وأكرمه وَقَالَ يَا جرود لقد تَأَخّر بك وبقومك الْموعد.
وَطَالَ بكم الأمد.
قَالَ وَالله يَا رَسُول الله لقد أَخطَأ من أخطأك قَصده.
وَعدم رشده.
وَتلك وَايْم الله أكره خيبة.
وَأعظم حوبة.
والرائد لَا يكذب أَهله.
وَلَا يغش نَفسه.
لقد جِئْت بِالْحَقِّ.
ونطقت بِالصّدقِ.
وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ نبيًّا.
واختارك للْمُؤْمِنين وليًّا.
لقد وجدت وصفك فِي الْإِنْجِيل.
وَلَقَد بشر بك ابْن البتول.
وَطول التَّحِيَّة لَك.
وَالشُّكْر لِمن أكرمك وأرسلك.
لَا أثر بعد عين، وَلَا شكّ بعد يَقِين.
مد يدك فَأَنا أشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّك مُحَمَّد رَسُول الله.
قَالَ فَآمن الْجَارُود من قومه كل سيد وسر النَّبِي بِهم سُرُورًا.
وابتهج حبورًا.
وَقَالَ يَا جارود هَلْ فِي جمَاعَة وَفد عَبْد الْقَيْس من يعرف لنا قسًا؟ قَالَ كلنا نعرفه يَا رَسُول الله وَأَنا من بَين قومِي كنتُ أقفو أَثَره، وأطلب خَبره.
كَانَ قس سبطًا من أَسْبَاط الْعَرَب.
صَحِيح النّسَب.
فصيحًا إِذا خطب.
ذَا شيبَة حَسَنَة.
عُمَر سبع مائَة سنة.
يتقفر القفار.
لَا تكنه دَار.
وَلَا يقره قَرَار.
يتحسى فِي تقفر بيض الْحمام.
ويأنسُ بالوحش والهوام.
يلبس المسوح.
ويتبعُ السياح عَلَى منهاج الْمَسِيح.
لَا يفترُ من الرهبانية.
مقرّ لله بالوحدانية.
تضرب بِحكمته الْأَمْثَال.
وتكشفُ بِهِ الْأَهْوَال.
وتتبعه الأبدال.
أدركَ رَأس الحواريين سمْعَان، فَهُوَ أول من تأله من الْعَرَب.
وأعبد من تعبد فِي الحقب.
وأيقنَ بِالْبَعْثِ والحساب.
وحذر سوء المنقلب والمآب.
وَوعظ بِذكر الْمَوْت.
وَأمر بِالْعَمَلِ قبل الْفَوْت.
الْحَسَن الْأَلْفَاظ.
الْخَاطِب بسوق عكاظ.
الْعَالم بشرق وَغرب.
ويابس وَرطب.
وأجاج وعذب.
كَأَنِّي أنظرُ إِلَيْهِ.
والعربُ بَين يَدَيْهِ.
يقسم بالرب الَّذِي هُوَ لَهُ.
ليبلغنَّ الْكتاب أَجله.
وليوفين كل عَامل عمله.
ثُمَّ أنشأ يَقُولُ:
(هاج للقلب من جواه ادِّكار ... وليال خلالهن نَهار)
(ونجوم يحثها قمر اللَّيْل ... وشمس فِي كل يَوْم تدار)
(ضوؤها يطمس الْعُيُون وإرعاد ... شَدِيد فِي الْخَافِقين مطار)