للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والمنسوخ يدخل فيه - في اصطلاح السلف العام- كل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح كتخصيص العام وتقييد المطلق، فإن هذا متشابه لأنه يحتمل معنيين، ويدخل فيه المجمل فإنه متشابه، وإحكامه رفع ما يتوهم فيه من المعنى الذي ليس بمراد" (١).

فهذا النوع من المتشابه نسبي، فقد يتشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره، كما أن الملائكة يعلمون من أخبار الغيب ما يكون متشابها عند بني آدم (٢).

فاللفظ الذي يقبل معنى إما أن يحتمل غيره أو لا، والثاني النص -كما في اصطلاح الأصوليين- والأول إما أن تكون دلالته على ذلك الغير أرجح أو لا، والأول هو الظاهر، والثاني إما أن يكون مساويه أو لا، والأول هو المجمل والثاني المؤول؛ فالمشترك بين النص والظاهر هو المحكم، والمشترك بين المجمل والمؤول هو المتشابه (٣). وهذا إنما يعرف بيانه الراسخون في العلم، ولهذا من استدل من السلف بآية آل عمران، وجعل الوقف عند "والراسخون في العلم" على أن الراسخين يعلمون المتشابه فإنما مراده هذا النوع.

وقد ذكر المفسرون في أسباب نزول آية آل عمران (٤): قدوم وفد من نصارى نجران، وأنهم ناظروا النبي صلى الله عليه وسلم، واحتجوا عليه بما في القرآن الكريم من لفظ (إنّا) و (نحن) ونحو ذلك، على تعدد الآلهة، وهو التثليث عندهم، وكذلك بنحو قوله تعالى في المسيح {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: ١٧١] (٥)، فاستدلوا بـ (كلمته) و (روح منه) على عقيدتهم في النبوة، وأن عيسى فيه جزء إلهي.

فلفظ (إنّا) و (نحن) يعرف العلماء أن المراد به الواحد المعظم نفسه، لم يرد به أن الآلهة ثلاثة: فهذه الألفاظ قد يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه، ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه وإن لم يكونوا من جنسه، ويراد بها الواحد المعظم نفسه الذي يقوم مقام من معه غيره لتنوع أسمائه التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى، وكذلك الملك - من ملوك الدنيا- يقول: إنّا -ونحن- وفعلنا كذا، وقلنا كذا، ومعلوم أنه وما ملك مخلوق لله مربوب له، وهو سبحانه أحق من يقول: إنّا، ونحن بهذا الاعتبار، فإن ما سواه ليس له ملك تام ولا أمر مطاع طاعة تامة، فالله تعالى يقول: إنّا ونحن، والملك من ملوك الدنيا يقول: إنّا ونحن، وهذا متشابه من هذه الجهة، لكن يعلم أن ما يختص الله به من تمام الملك والخلق والأمر لا يشركه فيه أحد من خلقه، ولهذا قال تعالى: {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ} [الأعراف: ٥٤] (٦) وقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)} [الإخلاص: ١] (٧) فالواجب حمل تلك الألفاظ المشتبهات على هذه الآيات المحكمات (٨).


(١) مجموع الفتاوى ص ١٣/ ٢٧٢ - ٢٧٣.
(٢) المرجع السابق ١٧/ ٣٨٠.
(٣) انظر: الإتقان للسيوطي ٣/ ٨.
(٤) انظر: تفسير الطبري ٣/ ٢٠٥، وتفسير البغوي ١/ ٣٢٣.
(٥) سورة النساء: ١٧١.
(٦) سورة الأعراف: ٥٤.
(٧) سورة الإخلاص: ١.
(٨) مجموع الفتاوى ص ١٣/ ١٤٥، ٢٧٥، ٢٧٦، ١٧/ ٣٧٨، وانظر: منهج الإستدلال على مسائل الاعتقاد ص ٢/ ٤٨٥ - ٤٨٨.

<<  <   >  >>