هذا إلى أن الأصل في حقائق الأمور هو واقعها، وأن الواقع هو الصواب ما لم يقم دليل علمى على خطئه، وليس هناك من واقع أمر كتاب المعمرين لأبي حاتم السجستاني ما يقوم معه الشك في صحة الكتاب، أو في صحة نسبته لصاحبه.
* * *
وإن عناية أبي حاتم السجستاني بجمع أخبار المعمرين لا بد أن تكون قد واتته في سن بعد السبعين، وهذه العناية تصور إحساسا داخليا شعر به السجستاني وتمكن من نفسه بعد أن صار من المعمرين، وأصابه من الكبر ما أصابهم، فإذا به يعرض أحاسيسه، وقد عمر نحو التسعين عاما، بلغة غيره من المعمرين الذين سبقوه منظومة في كتاب المعمرين، فما عرف أبو حاتم السجستاني في زمن فتوته العقلية إلا بأنه العالم بمسائل الفقه والحديث.
وإنه لمما لا شك فيه أن العمر العقلى للإنسان يلعب دورا هاما في اتجاهاته نحو فنون الحياة الثقافية، فالعمر العقلى يولد صغيرا كما يولد الإنسان صغيرا، فيكون نشاطه غريزيا محبا للاستطلاع والمعرفة، كما يكون الطفل تماما، ثم يكبر العقل شيئًا فشيئا فيكبر منه الذوق الثقافي والفني منتهجا السبيل المعاشي والاجتماعي للإنسان، وتتشعب بالناس بعد هذا أذواقهم وميولهم في حياتهم نحو الآداب وفنونها، فالإنسان في شبابه يعشق الجمال الجنسى والطبيعي، والأديب في نشاطه العقلى يتذوق الجمال ويصوره في أساليب الغزل والوصف، فإذا بلغ العتى من الكبر نحا مناحي أخرى من ألوان التعبير، وقل أن يتغزل الشاعر الهرم إلا أن يكون غزله ذلك الغزل الروحى الذي يتخذه وصلة إلى مدح الرسول ﵊ أو سبيلًا غرض من الأغراض الدينية.
كذلك كان شأن أبي حاتم السجستاني، وكان شأن نشاطه العقلي، فهو في فتوة حياته عالم ومحدث، يعنى بما يعني به العلماء في عصره، قراءة وتأليفا، وهو في شيخوخته عجوز أقعده الكبر، فضعف عقله، وإذا إنتاجه الأدبي يتمثل في تلك المختارات التي حفظها الرواة، أو تضمنتها بطون الكتب المعروفة في عصره لأولئك الشيوخ الذين