ومرَّ إبراهيم الموصلي بصبية تُسلي الناس على الجسر اسمها (نَظْم) فسمع لها صوتاً عجيباً أطربه فأمر بحملها إلى منزله وتزوجها وعلّمها الغناء فبرعت فيه، وطرب الرشيد ذات ليلة وقد أخذ منه النبيذ، فركب حماراً وسار إلى دار إبراهيم متنكراً، فأخرج إليه إبراهيم جواريه خلف ستارة، وفيهن نظم، فغنَّت أحلى صوتٍ وأنغمه وأملحه، فقال لإبراهيم: من هذه الجارية؟ فقال: صبيَّة اشتريتها، فأفردها وأمرها فغنَّت مفدرة غناءً أطربه، فوثب إلى الستارة فهتكها، فإذا صبيةٌ ملفوفة، فضحك وقال لإبراهيم: ويلك ما هذه، فأخبره بقصتها، فشرب على غنائها حتى سكر ومكثت في دار إبراهيم إلى خلافة المعتصم، وكانت لها نوبةٌ في داره، وكانت شديدة العربدة، فكلمت المعتصم ذات ليلةٍ بكلام غليظ، قالت له في بعضه: إني أُمٌّ من أُمهاتك تعرَّض لها الرشيد وقد وطِئها؛ فأمر المعتصم بنفيها إلى السند فنُفيت إلى السند.
وكان عمر بن موسى البرمكي يلي السند، فعربدت عليه ليلةً فقتلها.
قال الشاعر:
ونديم معربد ... مفسدٍ كلَّ مقعَدِ
إن تعاتبه باللِّسان يعاتبك باليَد
وقال آخر:
لا تشربن ومعربداً في مجلسٍ ... إلا وعندك من دَمِ الأخوين
ريحانُهُ بدمِ الشجاع مخضَّبٌ ... وتحيَّة الندمان لطم العين
وقال آخر:
رأيت القلب كاد يطير لمَّا ... رأيت معربداً يَهوِي إلينا
فقلت وقد سمعت له نخيراً ... حوالينا الصدود ولا علينا
وقالت الحكماء: استعذ بالله من جليس السوء فإن الشرَّ منه لا يكاد يخطئك.
وحكى عمرو بن بحر الجاحظ عن الأصمعي قال: عربد بعض المجَّان على القمر فقال له: والله إنك لتغيِّر الألوان، وتصفر الأسنان وتخدِّر الأبدان وتفضح السكران وتظهر الكتمان وتبيض الأُرجوان وتلحس الزعفران وتهزل الحيتان وتمحق الأدمغة في النقصان. وقالوا: إن سبب العربدة لا يكون ممَّن بلغ به السُّكر ولا ممن لم يشرب، ولكن يكون ممن توسط هاتين الحالتين لأن من بلغ منه السكر لم تكن له حركة صحيحة ولا إرادة تامة. وأما من لم يشرب فإن عقله ثابت وحكمه، فيما يحكم به، على الصواب، وأما المتوسط، فليس في حدّ من عقله ثابت وتمييزه صحيح، ولا في حدِّ من بلغ في سكره مبلغ من قد بطلت معرفتُهُ. فعند ذلك يكثر فكره ويسوءُ ظنُهُ ويتخيل أشياءَ على غير ما هي عليه في الحقيقة، فيستخف ببعض أصحابه أن بعضهم قد استخف به فيعربد حينئذس من غير أصل. فما وجدت لمن كانت هذه حاله واخترت في مثلها أفعاله إلا كما قال بعضهم:
لذتي في اثنتين لي ... من بديع التمرُّدِ
صفع من تاه بالغناء وضرب المعربد
ولذلك اختار بعضهم التفرد على الصاحب السوء والخدين المعربد للمثل السابق في قولهم: الوحدة خير من خدين السوء.
وكان بالبصرة مجنون يقال [له] عبَّاس، فدعا أصحاباً من المجانين وأطعمهم وسقاهم نبيذاً، فعربد أحدهم، فأخذ بيده وأخرجه وأغلق بابه دونه ثم دخل وهو يقول:
ومعربدٍ أخرجته ... لما تعرَّض للندامى
أغلقت بابي دونه ... وتركته يرعى الخُزامى
يرنو بمقلةِ مغضبٍ ... نظر الوصيِّ إلى اليتامى
وعربد فتىً من بني هاشم على قومٍ فأراد عمُّه أن يعاقبه فقال: يا عم إني أسأت وليس معي عقلي فلا تسيء بي ومعك عقلك.
وحضر مغن مع قوم فعربدوا، فقام ليصلح بينهم فأخذوا بحلقه فجعل يصيح: معيشتي يا قوم، الله الله في معيشتي، يريد أن معاشه من حلقه. وحكى المدائني قال: شرب رجل من بني ثعلبة يقال له المعدل، ورجل من بني عجل، وكانا يتنادمان ويدمنان الشرب، فقال العجلي يوماً وقد سكر:
ألا فاسقياني على لذةٍ ... بفضل لُجَيمٍ على ثعلبة
فقال المعدل:
ومخزية قالها فاسق ... لئيم القفا معرق الأرنبة
وضرب العجلي فقتله وهرب فاستجار بنهش بن ربيعة العتكي فأجاره وطلبه بنو عجل فمنعته العتيك وحملوا عند الدية. فقال المعدل:
جزى الله فتيان العتيك وإن نأت ... بي الدار عنهم، خير ما كان جازيا
خلطوني بالنفوس وأحسنوا ... الثواية، لما حُمَّ ما كان آتيا