للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقال حاجب بن زُرارة لبنيه يوصيهم: إياكم والخمر فإنها مُفسدة العقول، ذهابةٌ بالطارف والتليد. وقال بعض الكُتُب، إن إبليس لقي يحيى بن زكريا عليه السلام فقال له: ألا أُعلمك أربع خصال تَتَّعِظُ بهنَّ؟ قال: بلى. قال: إياك والحسد فبه سخط الله عليَّ وأُخرجت من الملائكة، وإياك والطَّمع فبه سخط الله على أبيك آدم وأُخرج من الجنة، وإياك والنساء فإنهتَّ مصايدي، وما خلا رجل بإمرأة إلا كنت ثالثهما، وإياك والخمر فإنها حَبلي، ومن جعلت حبلي في عنقه قُدته حيث شئت.

وقيل لأعرابي: اشرب النبيذ، قال: لا أشرب ما يفني تالدي ويشغل عن معادي ويذهب عقلي ويكثر خبلي.

وقال مقيس بن صبابة حين حرَّمها في الجاهلية:

رأيت الخمر طيبةً وفيها ... خصالٌ كلها دنسٌ ذميم

فلا والله أشربها حياتي ... طوال الدهر ما طلع النجوم

وكان عبد الله بن جدعان قد سكر فجعل يساور القمر فلما أصبح وأُخبر بذلك حرمها وقال:

شربت الخمر حتى قال قومي ... ألست عن السفاه بمستفيقِ

وحتى ما أُوسدُ في منامٍ ... أنام به سوى الترب السحيق

وحتى أغلق الحانوت رهني ... وأنكرت العدوَّ من الصديق

وأنشد أبو بكر الأنباري:

تركت النبيذ لأهل النبيذ ... وأقبلت أشربُ ماءً نُقاخا

رأيت النبيذ يُذِلُّ العزيز ... ويكسو النقيَّ النقيَّ اتِّساخا

فهبي عذرت الصبي جاهلاً ... فما العذر فيه إذا المرء شاخا

قال الهيثم بن عدي: كنا نقول بالكوفة: إنه من لم يَروِ هذه الأبيات فلا مروءة له، وهي لأيمن بن خُريم:

وحمراء جرجانيةٌ لم يطف بها ... حنيف ولم تنغر بها ساعة قِدرُ

أتاني بها يحيى وقد نمت نومة ... وقد مالت الجوزاء أو جنح النسر

فقلت اغتبقها أو لغيري فاسقها ... فمالي بعد الشيب، ويبك والخمرُ

تعففت عنها في العصور التي خلت ... فكيف التصابي بعدما كلأَ العمر

إذا المرءُ وفَّى الأربعين ولم يكن ... له دون ما يأتي حياءٌ ولا سترُ

فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى ... وإن جرَّ أسباب الحياة له الدهرُ

؟؟؟ ذكر ما جاء في الخُمار

رأيت أكثر الناس اختدعوا بالمثل الذي يضرب وهو: الخمر دواءقللخُمار، فأتبعوا السُّكر فعرضت لهم أمراض صعبة، فإن فعل ذلك قومٌ وسَلموا من الأمراض لِقوة أبدانهم وصحة أعصابهم، فإنَّ ذلك غير مخرجهم من الخطأ في فعلهم.

قال بعضهم:

داوِ الخمار بخمرة الكأس المشعشعة العُقارِ

لو خامرت عقل العُزير لزلَّ عن ظهر الحمارِ

وشرب رجلٌ عند خَمَّارٍ نصراني أياماً فأصبح ميتاً فاجتمع عليه الناس وقالوا: قتلته، قال: لا والله، ما قتله إلا قوله: وداوِ بالخمر الخُمارا، واستعماله قول الشاعر:

وكأس شربت على لذةٍ ... وأُخرى تداويت منها بها

لكي يعلم الناس أني امرؤٌ ... أتيت الفتوَّة من بابها

وقال الفرس: بالخمر تُدفعُ الخمرُ، وشبَّهت المكثر منها بدود الخلِّ لا يحيا إلا فيه ولا ينتفع إلا به. قال أبو نواس:

اشرب الخمرَ العُقارا ... وانفِ بالخمر الخمارا

واسقنيها من سُلافٍ ... تدع الليل نهارا

قال الرازي: أعظم علاج الخمار النوم والحمّام، فمن أصابه عليه غثيان وتقلب، شرب اسكنجبين بالماء الفاتر، واستعمل القيء مراراً، فإن اصابه صُداع صبَّ على رأسه ماء ورد بكافور وشرب الجُلاَّب وأكل الرُّمان الحامض. ومن أصابه على الخمار بهتةٌ وبلادة استعمل التَّعب ثم دخل الخمام ليعرق، ومن أصابه طيشٌ وهذيان شرب شراباً كثير المزاج وغرَّق رأسه بدهن البنفسج وغَسَل أطرافه بالماء الفاتر وطلب النوم. ودواء الخمار العسِر البطيء الطويل شربُ اليسير من الشراب الكثير المزاج.

وبالجملة إن الشراب صرفاً في الشتاء أنفع من الممزوج، وكذلك الممزوج في الصيف أنفع من الصِّرف، غير أنه لا ينبغي أن يتعرض له من به صُداع أو ضعفٌ في الدماغ والعصب والعين أو حدَّة في الكبد، ومن تسرع إليه الحميات؛ قال أبو نواس:

<<  <   >  >>