للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

علينا" ينصرف إلى إحلال النبي صلى الله عليه وسلم وتحريمه، فإن قيل: فالصحابة في هذه الواقعة كانوا مضطرين، ولهذا لما هموا بأكلها قالوا: إنها ميتة، وقالوا: نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن مضطرون فأكلوا، وهذا دليل على أنهم لو كانوا مستغنين عنها لما أكلوا منها١.

قيل: لا ريب أنهم كانوا مضطرين ولكن هيأ الله لهم من الرزق أطيبه وأحله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لهم بعد أن قدموا: "هل بقي معكم من لحمه شيء؟ " قالوا: نعم، فأكل منه صلى الله عليه وسلم وقال: إنما هو رزق ساقه الله لكم"، ولو كان هذا رزق مضطر لم يأكل منه للضرورة فكيف ساغ لهم أن يدهنوا بوكدها، وينجسوا به ثيابهم وأبدانهم، وأيضا كثير من الفقهاء لا يُجَوِّز الشبع من الميتة، إنما يجوزون منها سد الرمق. والسرية أكلت منها حتى ثابت إليهم أجسامهم وسمنوا وتزودوا منها٢.

وفيها دليل على جواز الاجتهاد في الوقائع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره على ذلك، لكن هذا كان في حال الحاجة إلى الإجتهاد وعدم تمكنهم من مراجعة النص. وقد اجتهد أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة من الوقائع وأقرهما على ذلك، لكن في قضايا جزئية معينة لا في أحكام عامة وشرائع كلية؛ فإن هذا لم يقع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد من


١ ربما أنهم توقفوا بادىء الأمر لعدم معرفتهم بالحكم الذي لم يرد فيه نص قاطع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في وقت متأخر في الحديث الذي يرويه أبو هريرة الذي أسلم بعد فتح خيبر – في البحر، وفيه: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" أخرجه مالك وأصحاب السنن، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، وقال عنه الترمذي: حديث حسن صحيح. انظر موطأ مالك (١/٢٢، ٢/٤٩٥) ن والمباركفوري، تحفة (١/٢٢٥-٢٣٠) والألباني صحيح سنن الترمذي (١/٢١) ، وصحيح سنن أبي داود (١/١٩) ، وصحيح سنن النسائي (١/١٤) ، وصحيح سنن ابن ماجه (١/٦٧) ، وابن حبان، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (٧/٣٣٧) ، وكان يمكن لابن القيم الاعتماد على هذا الحديث في بيان حكم ميتة البحر، وإن كان ما ذكره من آثار تدخل ضمن هذا الإطار، والله تعالى أعلم بالصواب.
٢ ابن القيم، زاد (٢/١٥٩) .

<<  <   >  >>