للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"أفلا تخرجون مع راعينا١ في إبله٢، فتصيبون من ألبانها وأبوالها؟ قالوا:


=والفاء للتعقيب، وفي رواية ابن السني وأبي نعيم: "فلم يمكثوا في المدينة إلا يسيرا حتى أصابهم وعك شديد". كما أن تشمع الكبد والحبن الذي قد يصاحبه لا يشفى شفاء تامًّا، وإذا جمعنا الأعراض التي أصيب بها رهط عرينة وعكل وجدناها: توعكا وحمى وضخامة بطن ونحولا وضعف القوة واصفرار اللون أي شحوبه، وهذه الأعراض تدل بالنسبة للمدينة المنورة وما يمكن أن ينتشر فيها من أمراض، تدل على أن مرضهم كان حمى المدينة كما تنص رواية أحمد في مسنده، وحمى المدينة سببها أحد مرضين محتملين:
الأول: حميات الإنتانات المعوية، ففيها تنتفخ البطن بسبب انتفاخ الأمعاء.
والثاني: جمى البرداء (الملاريا) وفيها يزداد حجم الطحال وقد يترافق بضخامة الكبد.
وبيئة المدينة المنورة مساعدة على ظهورهما، لأن حول المدينة نخيل وزراعة وفي وادي بطحان مياه آسنة، والبعوض الخبيث ناقل لعامل البرداء ويفضل عيشة الريف والمزارع، وقد يوجد في الحدائق القريبة من المدن يضع بيوضه على شاطىء ماء راكد أو على ما فيه من أجسام سابحة. أما جراثيم الإنتانات المعوية فتكثر في المياه الملوثة. وللقصور في تشخيص الأمراض في ذلك الزمن وندرة الأطباء في الجزيرة العربية، يمكن أن تعد الإصابة بالإنتانات المعوية أو البرداء من حمَّى المدينة، وأن حديث ابن عباس المرفوع "إن في ألبان الإبل وأبوالها شفاء للذّربة بطونهم" يرجح احتمال الإصابة بالإنتانات المعوية، لأن الذرب يدل على فساد الأمعاء، ولم يجر بحث ولا تجارب علمية في العصر الحديث حول الفوائد العلاجية لألبان الإبل وأبوالها. انظر الدكتور محمود ناظم النسيمي، الطب النبوي والعلم الحديث (٢/٢٤٠-٢٤١) .
قلت: ورواية ابن إسحاق: "فاستوبئوا وطحلوا" ترجح إصابتهم بالبرداء، إذَا فالاحتملان متقاربان، وربما يكونوا قد أصيبوا بهما معا، والله أعلم. وياحبذا لو يكون هناك قسم في الجامعة يقوم بالأبحاث حول الطب النبوي والأدوية النبوية، وذلك لإبراز الفوائد العلاجية لتلك الأدوية، وخاصة بعض الأدوية التي لم يجر حولها أبحاث حتى الآن، مثل: السَّنا، والإثمد، والحجامة، وألبان الإبل وأبوالها، وغيرها كثير، فإن أكثر العوام بل أكثر المثقفين من غير أهل العلم لا يعرفون عن هذه الأدوية شيئا يذكر لبعدهم عن كتب الحديث.
١ ذكر ابن إسحاق بإسناد فيه جهالة أن اسمه يسار، أصابه رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة محارب وبني ثعلية. ابن هشام، سيرة (٤/٦٤٠) ، ورواه الطبراني موصولا من حديث سلمة بن الأكوع قال: رآه يحسن الصلاة فأعتقه وبعثه في لقاح له بالحرة فكان بها. الطبراني، المعجم (٧/٧) . وذكر ابن حجر: أن إسناده صالح. ابن حجر، فتح (١/٣٣٩) .
وقال الهيثمي: فيه موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي وهو ضعيف. الهيثمي، مجمع (٦/٢٤٩) .
قلت: لأنه منكر الحديث، كذا قال ابن حجر، تقريب (ص ٥٥٣) .
٢ وقع في روايات أخرى أنه أمرهم أن يأتوا إبل الصدقة. قال ابن حجر: والجمع بينهما أن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة وصادف بعث النبي صلى الله عليه وسلم بلقاحه إلى المرعى طلب هؤلاء النفر الخروج إلى الصحراء لشرب ألبان الإبل، فأمرهم أن يخرجوا مع راعيه فخرجوا معه إلى الإبل ففعلوا ما فعلوا، وظهر بذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "إن المدينة تنفي خبثها". ابن حجر، فتح (١/٣٣٨) .
واختلف في مكان اللقاح (الإبل) فذكر موسى بن عقبة أنها كانت بفيفاء الخبار من وراء الجمَّاء، ويقع هذا المكان غربي وادي العقيق كما ذكر صاحب "وفاء الوفاء". انظر رواية موسى بن عقبة عند ابن سيد الناس، عيون (٢/١١٩) ، وباقشيش، مرويات (٢/٤١٠) ، وانظر السمهودي، وفاء الوفاء (٣/٨٧٩) .
أما الواقدي وكاتبه ابن سعد فذكرا أنها كانت بذي الجدر ناحية قباء قريبا من عير، على ثمانية أميال من المدينة، كما ذكر أن عدد لقاحه صلى الله عليه وسلم كانت خمس عشرة، وأن الأعراب نحروا منها واحدة يقال لها الحناء. انظر الواقدي، مغازي (٢/٥٦٨-٥٧٠-٥٧١) وابن سعد، طبقات (٢/٩٣) .

<<  <   >  >>