للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[خطر اللسان]

ثم قال عليه الصلاة والسلام: {ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ -أي: ما يجمع عليك ذلك- قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه وقال: كُفَّ عليك هذا} أخطر ما يمكن أن يواجه العبد في الدنيا هو لسانه، ولذلك قالوا: تسعة أعشار الذنوب من اللسان! والغزالي في الإحياء بوب أبواب الذنوب التي تصاب من اللسان فجعلها عشرة أبواب، والرسول عليه الصلاة والسلام كلما ذكر عبداً ذكره بذنب لسانه، فإنه أسرع في الذنوب وفي الخطأ, وهو يتكلم بلا حساب، وهو يفرط منك بلا شعور، فيغتاب وينم ويأتي بالبذاءة، ويأتي بكلمة مدلهمة قد تهوي بصاحبها في النار سبعين خريفاً، فنسأل الله العافية.

ورد عن أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه أنه وقف يبكي وحده ويقول: [[هذا أوردني الموارد ويأخذ بلسانه]].

هذا أبو بكر رضي الله عنه فما بالنا نحن؟! وابن عباس بكى على الصفا وأخذ بلسان نفسه وقال: [[يا لسان قل خيراً تغنم أو اسكت عن شر تسلم]].

ويقول ابن مسعود -كما نقل عنه ابن رجب في جامع العلوم والحكم -: [[والله الذي لا إله إلا هو ما في الدنيا أحق بطول حبس من اللسان]] , والشافعي رحمه الله يقول:

لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن

وعيناك إن أبدت إليك معايباً لقوم فقل يا عين للناس أعين

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيح: {من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة} فهي ضمانة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن من يضمن؟ انظر إلى نفسك من يوم أن تصبح الصباح إلى أن تنام وأنت في كلام مستمر، ولو ذكرنا الله عز وجل بقدر كلامنا مع الناس وأخذنا وعطائنا واتصالاتنا وزياراتنا لكنا من الذاكرين الله كثيراً، لكن إذا ذكرنا ذكرنا بغفلة ونسيان وهوس، وإذا أتينا لنتكلم مع الناس استحضرنا قلوبنا وأبدعنا في الكلام، وصححنا الكلمات والنطق، وهذا ليس منهجاً سديداً؛ أن يكثر العبد من اللغو، والله وصف المؤمنين بأنهم عن اللغو معرضون.

ذكر عن الربيع بن خثيم -أحد الزهاد العباد التابعين الأخيار- أنه كان يحسب كلامه من الجمعة إلى الجمعة! فقالوا: ما لك؟ أتستطيع ذلك؟! قال: ألا تظنون أن علي رقيباً وعتيداً يحصي ما أقول عن اليمين وعن الشمال؟

وعطاء بن أبي رباح ذكر عنه صاحب التذكرة أنه قال: يا أيها الناس! اتقوا الله في ألسنتكم، لا تتكلموا إلا بخير أو بتلاوة أو بذكر، أو بأمر بمعروف أو نهي عن منكر؛ فإن أعمالكم تحصى عليكم.

وسمعت عائشة رضي الله عنها وأرضاها جارات لها يتحدثن بعد صلاة العشاء, فأرسلت جارية لها وقالت: قولي لهن يتقين الله ويرحن الكتبة، لأن الملك لا يترك الكتابة حتى تنام، فمهمته أن يبقى معك حتى تنام، فما بالك بإنسان يبقى حتى الساعة الواحدة أو الساعة الثانية عشرة وهو يتكلم في هذا وذاك وفي المجريات؟ وهذا إن كان من المحسنين، ففي الأخبار والأسعار والأمطار وما جد في المجتمع، والسيء من يغتاب الناس ويأكل لحومهم وأعراضهم، يُجرح ويُعدل بعد صلاة العشاء التي كان السلف يقومون يتباكون فيها {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:١٦] الوقت الذي ننام فيه نحن كان السلف يقومون فيه ويصلون.

تجد كثيراً من المجالس تئن وتشكو إلى الله عز وجل من كثرة الذنوب والخطايا، والحرمات التي تنتهك في هذه المجالس.

إني أدعو نفسي وإياكم إلى حفظ هذا اللسان، وإلى ذكر الله به كثيراً، وإلى تقوى الله فيه, فإنه كما ورد في حديث ابن عباس -يرفعه تارة ويقفه على نفسه تارة-: {يأتي العبد يوم القيامة أحنق شيء على لسانه, يقول: هذا أوردني الموارد}.

فنعوذ بالله من لسان لا يسلم من الخطأ، ونعوذ بالله من لسان لا يتسدد على الحق، ونعوذ بالله من لسان لا يجتنب اللغو, فإن الله إذا هدى سدد ووفق, يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].

أيها الإخوة الكرام! أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية والسداد والرشد, وأن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا، وأسأله أن يعمر قلوبنا وقلوبكم بذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

<<  <  ج:
ص:  >  >>