[الصوم جنة]
قال عليه الصلاة والسلام: {ألا أدلك على أبوب الخير؟ الصوم جنة} الصوم شيء عجيب، وفيه تربية للأرواح، وفيه من المنافع والفوائد ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وبالمناسبة أوصيكم ونفسي باستغلال الفرص السانحة الغادية الرائحة على العبد, فإنه لا يدري متى يموت, وذلك كصيام عاشوراء مع صيام يوم قبله أو يوم بعده, فإنه سئل عنه صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- فقال: {أرجو أن يكفر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى به السنة الماضية} سنة كاملة يكفرها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بهذا اليوم فأوصيكم بهذا اليوم وغيره من الأيام الفاضلة.
وكان الصحابة رضي الله عليهم وأرضاهم من أكثر الناس صياماً حتى في الجهاد، وفي المعركة قد يرخص المسلم لنفسه؛ لأنه يقاتل ويقارع بالسيوف ويضرب بالرماح فيقول: ولماذا أصوم؟ أريد أن أتقوى بالطعام على القتال.
لكن وجد من الصحابة من يصوم والسيف على رأسه, وطنين الرمح على شرفات حاجبه وهو صائم لله مثل من؟ مثل عبد الله بن رواحة، الشاعر البطل، الشاب المقدام، الذي قدم نفسه قرباناً فتقبلها الله عز وجل يوم أن تقبل الله من الصادقين في مؤتة، وكان رضي الله عنه صائماً, وكان دوره في القيادة الدور الثالث بعد زيد بن حارثة وجعفر، والرسول صلى الله عليه وسلم لما أرسل الجيش كانوا ثلاثة آلاف، والجيش المقابل -كما قال بعض المؤرخين- كانوا مائة وثمانين ألفاً! ما كنا نقاتل الناس بطائرات ولا صواريخ ولا دبابات، صحيح أن الله أمرنا أن نستعد, لكن كنا نفوز بقلوب ملأتها لا إله إلا الله
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي حاسر أسفاً من أمسك المنصرم
ألإسرائيل تعلو راية في حمى المهد وظل الحرم
أو ما كنت إذا البغي اعتدى موجة من لهب أو من دم
نعم كانت الأمة الإسلامية موجة من لهب وموجة من دم يوم عرفت لا إله إلا الله.
وصل ثلاثة آلاف إلى قرب عمان في أرض الأردن , ووصل مائة وثمانون ألفاً منهم العربي وغير العربي من النصارى وغيرهم إلى هناك، وتقابل الفريقان، فلما رأى الصحابة أن هذا العدد الهائل الذي أقبل كالبحر أو كالجبال بعضها يزحف على بعض، وأنت تصور مائة وثمانين ألفاً! كل كتيبة ألف مقاتل، وكل كتيبة تعرف أنها تريد احتلال الجزيرة العربية ودحض الإسلام وإنهاء الدعوة المحمدية، ووراء وأمام كل كتيبة قائد! فلما رأى المسلمون ذلك قال عقلاؤهم: نريد الرجوع إلى المدينة ولا نقاتل؛ لأن العدد ليس متكافئ, فقال عبد الله بن رواحة الصائم المجاهد: يا أيها الناس! أما نحن فقد خرجنا لإحدى الحسنيين, إما الموت في سبيل الله وهي الشهادة وإما النصر والعزة للإسلام، والذي نفس عبد الله بن رواحة بيده لا أعود حتى أموت شهيداً أو ينصر الله الإسلام والمسلمين، ثم أخذ غمد سيفه وكسره على ركبته، وهذا عند العرب ساعة الصفر!! معناه عدم العودة إلى الوراء، وتقدم زيد فقتل ثم تقدم جعفر فقتل، وأتى دوره ليأخذ راية لا إله إلا الله مع الغروب، الشمس تودع الدنيا بأشعتها الصفراء وتريد الانتهاء وهو صائم لا يجد بلل الريق في فمه، صائم مجاهد وهو على فرسه!! فلما دعي وقالوا: أين عبد الله بن رواحة؟ يدعونه الصحابة، قال: نعم.
قالوا: لقد قتل جعفر.
فتقدم.
فقال: ناولوني شيئاً من الطعام أتقوى به على القتال فإني أصبحت اليوم صائماً, فناولوه عرقاً من لحم فأخذ يأكله, ولما أراد أن يمضغه لم يعد للطعام مذاقاً ولا للشراب مساغاً سبحان الله! أيساغ الطعام ويذاق والصحابة يجندلون, ورءوس الأبطال تضرب تحت سنابك الخيل؟! يرى جعفر ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع أمامه ثم يأكل! يرى زيد بن حارثة يقطع ثم يأكل! فأخذ السيف وأخذ يقول:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أقبل الناس وشدوا الرنة
مالي أراك تكرهين الجنة
هل أنت إلا نطفة في شنة
ثم تقدم واقتحم على الفرس وقاتل وقتل مع الغروب، والرسول عليه الصلاة والسلام يتابع المعركة من المدينة، كشف الله له الغطاء حتى رأى الجيوش ورأى القتال ورأى القواد, فجمع الناس وهو يبكي على المنبر صلى الله عليه وسلم ويقطع صوته البكاء ويقول: لقد مر بي الثلاثة على أسرة، وفي سرير عبد الله بن رواحة ازورار وقد دخلوا الجنة جميعاً.
رضي الله عنهم وأرضاهم.
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيئاً فاشترى
هؤلاء هم صحابة محمد صلى الله عليه وسلم، يوم ما كان غير الله يديدن عليهم أبداً، كانت رايتهم لا إله إلا الله، لا قومية، ولا بعثية، ولا علمانية، ولا شيوعية؛ لأن هذه الرايات جربناها كثيراً في الساحات وأخفقت, وداسها أبناء القردة والخنازير بطائراتهم وصواريخهم ودكوها وردوها على أعقابها خاسرة منكسرة آسفة، نعم جربت هذه الشعارات أكثر من خمسين سنة, وهي ترفع وتقول إنها تريد تحرير فلسطين ورد القدس للمسلمين، لكن تقدمت فخسرت وخسأت وخابت لأنها علمانية، وعادت وهي تحمل العار والشنار والدمار؛ لأن لا إله إلا الله ما ارتفعت في سماء المسلمين.
جاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: {خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد, حتى إن أحدنا يضع يده على رأسه من شدة الحر} تصور يوم تخرج في الجزيرة العربية القاحلة الرمضاء, التي تكاد تشوي البشرة وتمتص الدم من الشرايين, وتجد الرجل من الصحابة يضع يده على رأسه يتقي حرارة الشمس! قال: {وما منا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة}.
ولذلك استوصى أبناء أبي موسى الأشعري أباهم فقالوا: بم توصنا؟ قال: عليكم بالصيام في شدة الحر وفي المعمعمان يقيكم الله عز وجل الحر ذلك اليوم؛ لأن ذاك اليوم لا يتقى إلا بالعمل الصالح يوم لا ظل فيه إلا ظل الله، يوم لا رحمة فيه إلا رحمة الله عز وجل.
ذكر ابن كثير في ترجمة أحد الصالحين أن روح بن زنباع , وهو أمير أموي قيل كان أميراً لـ عبد الملك بن مروان , وقيل للوليد بن عبد الملك، كان روح بن زنباع مسافراً يريد مكة لأداء العمرة, ومعه موكب, وعنده سُفَر يمد عليها ما لذ وطاب من الطعام والشراب، ومن كل الفواكه والأطعمة، فرأى رجلاً صالحاً يرعى غنماً معه, كلما مشى قليلاً توضأ وصلى ركعتين، فقال روح: علي بالرجل.
فذهبوا وأتوا به, فقال له ابن زنباع: أتريد أن تكون ضيفنا هذا اليوم.
قال: لقد دعاني من هو أكرم منك.
قال: ومن أكرم مني وليس في هذه البوادي رجل إلا أنا؟ قال: دعاني رب العالمين للإفطار الليلة عنده.
قال: أإنك لصائم؟ قال: نعم.
قال: أفطر عندي اليوم وصم غداً.
قال: وهل تضمن لي أن تبقى عليَّ الأيام؟ يقول: هل تضمن لي أن تبقى أيامي وعمري إلى الغد؟ قال: لا.
قال: فلا والله، لن أفطر هذا اليوم لأنني أخاف أن أموت غداً؛ فبكى الأمير وقال: ضاعت أيامك يا روح بن زنباع! على موائد بني أمية.
ولذلك كان طريق الجنة للأخيار والصالحين هو هذا الطريق، وذكروا في ترجمة زيد بن سهل الأنصاري أبي طلحة رضي الله عنه, الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده لصوت أبي طلحة في الجيش خير من مائة فارس} صوت أبي طلحة فحسب إذا كبر وهلل وسط قعقعة السيوف، وضرب الرماح يساوي مائة فارس, فما بالك بالرجل؟! يقول: ما صام إلا رمضان وحده في عهد الجهاد لاشتغاله بالجهاد، ثم سرد الصيام إلا يوم الفطر ويوم الأضحى أربعين سنة.
ذكروا ذلك في ترجمته, ونحن لا نوردها لسرد الصيام، ولا نبحث هل يجوز سرد الصيام إلا عيد الفطر وعيد الأضحى؟ إنما نوردها للاعتبار وقوة همم هؤلاء الصحابة على العبادة.
قال عليه الصلاة والسلام: {والصوم جنة} وعند مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه وأرضاه؛ قال عليه الصلاة والسلام: {من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً}.
وذكر عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يصوم في حر المدينة , وما كان هناك مكيفات ولا ماء بارد ولا ثلج ولا شيء من هذا.
قال: فكان يوضع له قربة في الشجرة وتقطر هذه القربة بمائها على صدره، فيقولون له: لو تركت الصيام إلى الشتاء.
قال: إني أخاف أن أموت قبل أن يأتي الشتاء.
إنه عمر محسوب.
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
وهذا الوزير ابن هبيرة الحنبلي, صاحب كتاب الإفصاح، كان من أعظم الوزراء، ومن أزهدهم في تاريخ الإسلام، كان وزيراً للخليفة العباسي المستنجد، وهو حنبلي المذهب ومحدث، ويخشى الله عز وجل كثيراً، كان يجلس لمجلس الحديث بعد صلاة العصر من يوم الجمعة, فيقرأ عليه العلماء الحديث فيبكي حتى يقول الناس: سيموت هذه الليلة.
حج وكان صائماً، ولما وصل إلى مكة أصاب الناس حر شديد وانتهى الماء، والتمس الناس الماء حتى أشرفوا على الهلاك من كثرة الضمأ! فتوضأ وقام ورفع يديه وقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا قال الراوي -وهذا في طبقات الحنابلة في ترجمته-: فوالله ما اقترب الغروب إلا وقد تساقط الغيث على الناس وسقط مع الغيث ثلج مبرد، فأخذ يحمل الثلج في إنائه ويبكي ويقول: يا ليتني سألت الله المغفرة، يا ليتني سألت الله المغفرة.
كان ابن هبيرة من أعظم الوزراء شهامة وريادة وتقوى وخشية وقراءة وتلاوة وعلماً، حتى يقول فيه الخليفة المستنجد وهو يمدحه:
صفت نعمتان عمتاك وخصتا فخيرهما حتى القيامة يذكر
وزهدك والدنيا إليك فقيرة وجودك والمعروف في الناس يذكر
ولو كان مكانك جعفر ويحيى لكف عنه يحيى وجعفر
ولم أر من ينوي لك السوء يا أبا الـ ـمظفر إلا كنت أنت المظفر
الشاهد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {والصوم جنة} أي: يتقي به العبد يوم القيامة من غضب الله ومن سخطه، فالله الله في الصيام لكن باقتصاد، الذهبي ترجم لأحد العلماء في سير أعلام النبلاء فقال: عليك بالصيام وأكثر منه.
قال الذهبي: باقتصاد.
أي تقتصد في الصيام؛ ثلاثة أيام من كل شهر من أعظم الصيام في الإسلام، وهي صيام الدهر وهي صيام رسولنا صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام.