[الأسلوب الثالث: اللطف واللين]
فلا يوجد ألطف من محمد عليه الصلاة السلام، ولذلك قال عنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:١٥٩] وقال له: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤].
يجلس في المسجد عليه الصلاة السلام ومعه أصحابه، ويأتي أعرابي وهو ذو الخويصرة اليماني فيبول في طرف المسجد، ويقوم الصحابة يريدون أن يبطحوه.
كل بطاح من الناس له يومٌ بطوح
البطح أسلوب من التعزير، هو أن يوضع الرجل على بطنه فيضرب حتى لا يدري أين القبلة! هل هي هنا أم هناك؟ فإذا استفاق استفاق وهو يقول: أصبحنا وأصبح الملك لله، فقام الصحابة فقال عليه الصلاة السلام: {لا تُزرِمُوه} وفي رواية: {لا تقطعوا عليه بوله} أو كما قال صلى الله عليه وسلم فتركوه، فلما انتهى استدعاه صلى الله عليه وسلم ووضع يده على كتف الرجل، وهذه يد الأنس واللطافة والتحبيب وقال: {إن هذه المساجد لا تصلح لأذى ولا لقذر، وإنما هي للصلاة والذكر والتسبيح، عليَّ بذنوب من ماء} المسألة سهلة حلها محمد عليه الصلاة السلام.
يقول برناردشو لو كان محمد صلى الله عليه وسلم فينا لحَلَّ مشاكل العالم وهو يشرب فنجان القهوة.
والشاهد ليس في شرب القهوة؛ لكن في هدوئه صلى الله عليه وسلم، المشكلة سهلة لكن لو قام الصحابة وتركهم صلى الله عليه وسلم ضربوه وضربهم وهرب من المسجد وكفر بالله ثم تكونت شائعة مغرضة ضد الإسلام، ونفر الناس عن الرسول عليه الصلاة السلام، لا يزال يأتي ويقول: فروا وانجوا بأنفسكم، أتيت إلى رسول يضرب الناس ليس عنده إلا بطح على الأرض، الذي يريد البطح والفرش والضرب يأتي إلى المدينة فلا يسلم الناس، فاستدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم وبين له.
وقام الرجل فتوضأ وأتى يصلي، وقال في التشهد الأخير: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فالتفت الرسول صلى الله عليه وسلم من الصلاة، فقال: من الذي دعا آنفاً؟ هو يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الأعرابي هل يقولها أبو بكر أو عمر أو عثمان أو علي؟
لا.
هؤلاء علماء وسادة ونجوم يعرفون، والواحد يوجه ملايين من الناس، قال: من قالها؟ -وأسلوب التورية سوف يأتي معنا هو العنصر الرابع في أسلوبه صلى الله عليه وسلم- قال الأعرابي: أنا وما أردت إلا الخير، قال: {لقد حجرت واسعاً} أي: ضيقت رحمة الله التي وسعت كل شيء {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:١٥٦] فعاد إلى قومه فأخبرهم بأخلاق الرسول عليه الصلاة السلام فدخلوا في دين الله أفواجاً.
أعرابي آخر وأصل الحديث في الصحيحين يمشي الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة متوجهاً إلى المسجد والأعرابي يأتي من ورائه صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فيسحبه سحباً عنيفاً، فيلتفت صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم، وفي رواية مسلم يضحك، وقد كان بإمكانه أن يلتفت بدون تبسم أو ضحك، فهو يأسر القلوب، وفي كل بسمة أسر، وفي كل حركة هداية، وفي كل إشعاعة نور.
نسينا في ودادك كل غال فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على محبتكم ويكفي لنا شرفاً نلام وما علينا
ولما نلقكم لكن شوقاًَ يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا
التفت وهو يضحك، قال: ما تريد؟ قال: أعطني من مال الله الذي عندك لا من مال أبيك ولا من مال أمك.
كلمات ليس لها داعي، لكن العقول الفاسدة الجافة لا تعرف الأدب، نسأل الله أن نكون ممن منَّ عليه بالإسلام.
فأتى الصحابة ليؤدبوه فقال: دعوه، فأخذه وذهب به فأعطاه شيئاً من المال، فنزل إلى الصحابة، فقال: يا أعرابي هل أحسنت إليك؟ قال: لا، ما أحسنت إلي، فأخذه صلى الله عليه وسلم مرة ثانية فزاده، قال: هل أحسنت إليك؟
قال: نعم!
جزاك الله من أهل وعشيرة خير الجزاء.
قال: عد إلى أصحابي، فإذا سألتك أمامهم، فقل هذا الكلام ليذهب ما يجدون في صدورهم، عاد فسأله، قال: نعم جزاك الله من أهلٍ وعشيرة خير الجزاء، ثم أسلم الرجل.
هذا في رواية أنس أنه أسلم، وأنا أستغفر الله إن كنت وقفت منه موقف المعارضة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: {إنما مثلي ومثلكم ومثل الأعرابي كرجل كان له دابة فرت منه فذهب يطاردها، فأتى الناس يلاحقونها، فما زادت إلا فراراً، قال الرجل للناس: أيها الناس! دعوني ودابتي أنا أعلم بدابتي} هذه الرواية سندها جيد وليست إلا عند مسلم، لكني أقول: سياقها بهذا بالزيادة، {فأخذ -هذا الرجل- خشاشاً من خشاش الأرض وخضرة الأرض وأشار للدابة فأتت فأمسكها وقيدها، قال: ولو تركتكم والأعرابي لضربتموه ثم كفر ثم دخل النار} أو كما قال عليه الصلاة السلام، حلم وأناة ولطف ولين.