روى أهل السير أن أبا بكر رضي الله عنه لما احتضر دخلت عليه ابنته عائشة فسلَّمت عليه وبكت طويلاً ونظرت إليه, خليفة المسلمين وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار, وصدِّيق الإسلام, يموت في ثوبين متواضعين مجرداً من الدنيا لا يملك إلا بدنه ولا يملك إلا بيتاً من طين، والعالم الإسلامي تحت إدارته وخلافته, فتدخل عليه عائشة في السكرات وتقول وهي تعزيه بروحه رضي الله عنه وعنها: صدق الشاعر يا أبتاه:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فالتفت إليها وقال مؤنباً لها، ومؤسفاً لها، ومعارضاً لها في هذا الاستشهاد، لا والله كذب الشاعر وصدق الله:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[ق:١٩] هذا الموقف ليس موقف قول شعر, وليس موقف محاضرات, فهذا موقف يقول الله سبحانه وتعالى:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[ق:١٩] ما معنى (تحيد)؟ أي: تفر, كلما أتاك المرض ذهبت إلى المستشفى, وذهبت إلى العيادة, وعرضت نفسك على الطبيب علّك تمتع, لكن إذا جاء الموت انتهى كل شيء:{ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[ق:١٩] هذا ما كنت منه تفر, وتحاول أن تلف, وتحاول أن تعرض, ولكن الآن لا منجى ولا ملجأ من الله إلا إليه, وانتهى كل شيء.