للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[رسالة امرأة فقدت ولدها]

أيها الإخوة الكرام: هنا رسالة تقول مرسلتها: إلى أهل القلوب الرحيمة إلى أهل الخير والبذل، رسالةٌ من أمٍ جريحة مصابة في دنياها بمصائب عديدة، بدأت هذه السلسلة من المصائب عندما فقدت ابنها الوحيد منذُ عدة سنوات، ولها أربع بنات غيره، ولأنها أمٌ فقدت، فقد بكت على فقد ولدها، حتى كادت أن تفقد بصرها، إن لم تكن فقدته الآن، وعندما ذهبت إلى المستشفيات قيل لها: إنها مصابة بتمزق في القَرَنيَّة، ليس القَرْنِيَةْ نسبة إلى قرْنة لكن القرَنية بالفتح التي في العين، إحدى العينين في القرنية، ومرضٌ في شبكيةٍ أخرى، فسلمت الأمر لله، وحاولت العلاج، فوجدت أنه يكلف مبالغ خيالية، وهي مع زوجها الفقير لا يكاد دخلهما يسد رمقهما، ويكفي حاجتهما الضرورية، رفعتُ أمري إليكم.

أولاً: انظر لمعاناة هذه المرأة مسكينة من بكائها على ابنها، والحقيقة مثلها يعذر، أنا الآن لست في موضع هل يجوز أن تبكي على ابنها؟

لأنها تريد طلباً آخر -أقول له: عَمْرَاً فيكتبه بكراً- هي تريد طلباً آخر، لكن انظر إلى الوله والولع، ولا يحس هذا الفقدان إلا من يعيش لذة الأولاد وحب الأولاد، ولوعة الأولاد، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن يعقوب عليه السلام: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:٨٤].

ذهب بصره من كثرة بكائه حتى كانت تقول الملائكة: اتقِ الله واصبر اتقِ الله واصبر فكان يأخذ التراب ويضعه في فمه ويقول: وأسفاه على يوسف!!

قال أهل العلم: "لو علم يعقوب عليه السلام بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:١٥٦] التي أنزلها على أمة محمد؛ لقالها، لكن قال: وآأسفا على يوسف.

هكذا أسلوب القرآن، انظر الاشتقاق، وآأسفاً على يوسف {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:٨٤] البلاغة العالية، ويقول كظيم، يقول أهل العلم: "أنه يكظم شيئاً ولا يتسخط، ويصبر على أمر الله، حتى بكت الملائكة معه، وطالبته أن يصبر، فأنزل الله على الأمة: {وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:١٥٥ - ١٥٧].

وبعض الناس يلوم البعض على البكاء، وفي المثل: لا يعرف الخلي حرقة الشجي، يعني: المعافى لا يدري حال المبتلى، يقول الشاعر الإيراني السني:

ما مَرَّ من طيف الهوى بمسمعي ولو سمعت الورق ما ناحت معي

يا معشر الخلان قولوا للمعافى لست تدري ما بقلب الموجعِ

حتى يقول الشاعر القديم لما مات أخوه مالك بن نويرة فرثاه متمم هذا وبكى وما عنده إلا عين واحدة، ومتمم هذا شاعر العرب وكان أعوراً، فبكى حتى ذرفت عينه العوراء من الدموع!! فكان يقول لها:

بكت عيني اليمنى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معاً

يقول: قلت لهذه العين اليمنى التي تبكي، اتقِ الله واصبري، قال: فبكت اليسرى.

ويقول متمم:

لقد لامني عند القبور على البكا رفيقي لتذراف الدموع السوافك

فقال أتبكي كل قبر رأيته لقبرٍ ثوى بين اللوى في الدكادكِ

فقلت له إن الشجى يبعث الشجى فدعني فهذا كله قبرُ مالك

الله أكبر نحن نعذرها، ولا بأس فرسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد البشر، وإمام الأمة وهو يحتضن ابنه إبراهيم في سنتين، وإبراهيم تتقعقع نفسه كأنه في شن، فتدمع عيناه عليه الصلاة والسلام، ويبكي ويقول: {تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون} لكن الصبر والامتثال لأمر الله عز وجل.

والشاهد أيها الإخوة: هذه امرأة وقعت في مأساة عنوانها: عند أحد المشايخ، في كلية إعداد المعلمين، وتقرير الأطباء والمبلغ باهض وتريد المساعدة، كي تتعالج.

وامرأةٌ أخرى أرسلت رسالة تقول: زوجها عقيم، ولا يستطيع أن يتعالج ولا عنده مال، هل عندكم مالٌ يتعالج؟

هذه المآسي، إنما توجد هذه المحاضرات حلاً للإشكالات.

واسمحوا لنا واعفوا عنا، أنا نجرح المشاعر بهذه المآسي، لكن أنتم الأمة، وأنتم صفوة الناس، وأنتم الأخيار، وما حضر هنا إلا كل خيِّر، وكل صالح.

تصوروا الآن: أنا ظننتُ أن الحضور سوف ينقص بسبب الامتحانات، فإذا الناس يتكدسون، من حبهم للخير وتكثيرهم للسواد الإيماني، ومن حضورهم مجالس الملائكة يحضرون، ويحضرُ الطلبة، بمستوياتهم، ويتركون من المغرب إلى العشاء لنا وللمسجد، بل لهم عند الله عز وجل.

فأسأل الله أن يثيبهم بذلك، وأشكرهم من الأعماق، حتى في الرياض، مساء الثلاثاء الماضي، كانت هناك محاضرة، وظننت أنه لن يحضر أحد من الامتحانات، فما كان من الشباب -أهل الامتحانات- إلا أنهم ملئوا المسجد، وخارج المسجد، وما حول المسجد، وهذه هي رسالة العلم، أن تكثر سواد المؤمنين، وأن تحضر مجالس الملائكة.

أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، والرشد والسداد، والعون والإلهام، وأسأله أن يحفظنا وأن يسددنا، وأن يرعانا، وأن يحوطنا بعين رعايته، وأن يصلح الراعي والرعية، وأن يكلأنا وإياكم برعايته إنه على كل شيءٍ قدير.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>