للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[زيارة المقابر]

فإن فيها الأولاد والأحفاد والأجداد, وفيها الأحباب والأصحاب والأصدقاء.

هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب

نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعلّ الردى مما نرجيه أقرب

ونبني القصور المشمخرات في الهوا وفي علمنا أنا نموت وتخرب

ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في سنن الترمذي: {زوروا القبور فإنها تذكركم بالآخرة} ويقول عليه الصلاة والسلام وهو يزور المقبرة: {السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية, اللهم لا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم}.

فزيارة القبور لما تركت أو قلل منها قست القلوب, ونسي الإنسان مع بهرج الحياة قصورها ودورها وسياراتها وعماراتها ومناصبها فجف القلب وقسا! فأعظم ما يذكر وما يحدث الخوف زيارة القبور, ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام وهو يزور مقبرة بقيع الغرقد في المدينة: {ليهنكم -يا أهل بقيع الغرقد - ما أمسيتم فيما أمسى فيه الناس, فتناً كقطع الليل المظلم -أي: أقبلت- يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً, ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً, يبيع دينه بعرض من الدنيا} نعوذ بالله من ذلك, ونسأل الله العافية, فأولها زيارة القبور، والوقوف عليها طويلاً، وهي للرجال وليست للنساء, فإن النساء منهيات في شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة المقابر, ويكفي المرأة أن تتذكر الموت في بيتها, وأن تتذكر موعود الله ولقاءه في بيتها, لتلقى ربها وهي سليمة مبرأة من كل ما يصرفها عن الله تبارك وتعالى.

وقد زار الصالحون كثيراً المقابر, يقول مطرف بن عبد الله بن الشخير في سيرته وهو من الصالحين الكبار: [[كنت آتي من بادية البصرة إلى البصرة لأصلي الجمعة في جامع البصرة، فكنت آتي قبل صلاة الجمعة بليلة، فإذا أتيت في الليل مررت المقابر، فسلمت عليهم ودعوت لهم كثيراً, إلا ليلة من الليالي مررت وكان المطر نازلاً وكان الليل بارداً فذهبت إلى بيتي وما وقفت على المقبرة ولا دعوت ولا سلمت, قال: فنمت تلك الليلة، فرأيت رجلاً من أهل المقابر يكلمني، ويقول لي: يا مطرف! أحرمتنا هذه الليلة من الدعاء والله الذي لا إله إلا هو، إن الله ينور علينا مقابرنا أسبوعاً كاملاً بدعائك]] فهم من أحوج الناس, فقد انقطعوا عن الأعمال وعن الصلة، وانقطعوا عن الأصحاب والأخلة والأحباب، وبقي لهم الدعاء منا, ومن دعى لقريبه أو حبيبه أو لأي مسلم وقد مات وصله ذلك ونفعه, وهم في أحوج الحاجة مرتهنون بأعمالهم.

خرس إذا نودو كأن لم يعلموا أن الكلام لهم حلال مطلق

فالموت آت والنفوس نفيسة والمستعز بما لديه الأحمق

فهم مرتهنون لا يكشف ضرهم ولا بلواهم إلا الحي القيوم, لا أنيس لهم إلا ما قدموا, ولذلك يقول محمد بن واسع: مررت بمقبرة، وقلت: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فسمعت هاتفاً من المقابر يقول: يا محمد بن واسع! تزود منها فوالله لو تعلمها لأخرجتها مع أنفاسك, لقد حيل بيننا وبين لا إله إلا الله فما نستطيع أن نقولها.

من يصلي عنك إذا لم تصلِ في الحياة؟ ومن يصوم عنك بعد أن تموت؟ ومن يتصدق عنك؟ ومن يحسن خلقه عنك؟ ومن يبذل الخير عنك؟ لقد انقطع العمل وبقي الدعاء.

<<  <  ج:
ص:  >  >>