[الإعراض عن التفقه في الدين من دواعي مرض القلوب]
الإعراض عن تعلم العلم وعن التفقه في الدين وعن معرفة سنن سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام:
تجد بعض الناس يعرف كل شيء إلا الدين, ويفهم كل شيء إلا أسرار الصلاة وأسرار عبادة الله عز وجل, ربما يستطيع أن يهندس السيارة وأن يخلعها وأن يشلحها مسماراً مسماراً, لكن إذا أتيت به إلى حديث قال: لا أدري أنا مهنتي لا أطلب الحديث, أنا لست مطوعاً! أنا خلقني الله هكذا اتركني آكل وأشرب والله عز وجل غفور رحيم, والله ينظر إلى أعمالنا وإن كنا مقصرين, ولا يغرك الذي يتكلمون ويتحدثون! نحن نعرفهم!
فتجده معرضاً عن تعلم العلم، قال عليه الصلاة والسلام كما عند البخاري: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير, وكان منها أرض إنما هي أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فسقوا وزرعوا, وكان منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك كمثل من نفعه الله بما بعثني به فعلم وعلَّم, ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به} رواه البخاري عن أبي موسى وهو عند مسلم أيضاً.
والرسول عليه الصلاة والسلام قسم الناس في هذا الحديث ثلاثة أقسام:
١ - قسم علم وتعلَّم وعلّم الناس فهو في منزلة بعد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
٢ - وقسم تعلم لنفسه وتفقه في الدين، فهو كالروضة الغنّاء أو كالغدير أو كالوادي الطيب الذي حبس الماء، فالناس يسقون أو يشربون منه لأنه في مكانه لا يأتيك منه إلا كلمة طيبة, إن زرته في بيته وجدت كلمة أو موعظة أو اهتداء أو أمراً حسناً, أقام بيته وأصلح شأنه، فله الشكر وله الثناء الحسن, لكن ما تعدى إلى الآخرين, وما وصل نفعه إلى الناس.
٣ - وقسم لا نفع نفسه ولا انتفع به بيته ولا ولده ولا تفقه ولا تعلم ولا عرف أمور دينه ولا علم الناس, فهذا بمنزلة الأرض السبخة؛ انظر الأراضي الآن التي تأتي على شواطئ البحار المالحة، لو نزل المطر عليها صباح مساء ولو ألف سنة ما أنبتت ولا أثمرت.
فنسأل الله أن يجعلنا من الأرض الطيبة وأن ينظر إلينا بنظر خير، فإنه قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} والمعرض عن الله هو الذي لا يتعلم العلم, ولا يحضر مجالسه, ولا يستفتي العلماء ولا يتفقه في الدين, ويشمله قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:١٢٤ - ١٢٦] يقول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: وهو من كفار قريش عندما أسلم فدخل في أستار الكعبة أو ثوب الكعبة فاستتر به رضي الله عنه وأرضاه قال: فخفت على نفسي فدخلت في ثوب الكعبة أستتر بستارها, فمرّ ثلاثة أو أربعة من المشركين كثيرة شحمة بطونهم قليل فقه قلوبهم, فيقول أحدهم للآخر: أتظن أن الله يسمعنا إذا تكلمنا؟ قال زميله له: إذا رفعنا أصواتنا سمعنا وإذا خفضنا لم يسمعنا -أي: الله عز وجل- هذا في الإعراض والغفلة.
قال عمار بن ياسر: {أرسلني صلى الله عليه وسلم لأعلم أناساً في البادية في غدير الخضمات تجاه المدينة، فذهبت إليهم فعلمتهم القرآن والحديث والسنن, فإذا بأناس معرضة قلوبهم، ميتة أرواحهم لا يريدون القرآن ولا العلم ولا الذكر, إنما همهم رعي الإبل ومطاردتها، فأتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: دعهم, أي: ما أراد الله أن يسمعهم خيراً} حتى تجد من الناس من اهتماماته صباح مساء الدنيا وليس له هم ولو نصف ساعة في هذا الدين.