معنى قوله سبحانه وتعالى: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
قال أهل العلم: إنما قال الله عز وجل: {أُورِثْتُمُوهَا} [الزخرف:٧٢] دليل على الاستحقاق، أي لما أحقها الله عز وجل كانت كأنها حق لكم في الإرث, لا أنكم ورثتموها كابراً عن كابر.
وقال بعضهم: لا.
لما قسمت الجنة بعلم الله عز وجل أصبحت ميراثاً ينتظره المؤمن وكل من يدخل الجنة.
فنسأل الله ألا يحرمنا ذاك الميراث: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:٧٢] كيف هنا يقول: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:٧٢] وهناك يقول عليه الصلاة والسلام: {لن ينجوا أحدكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته} فكيف ينفي صلى الله عليه وسلم دخول الجنة بالعمل، والله عز وجل يقول: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:٧٢].
لـ ابن القيم في هذا مذهب، ولبعض أهل العلم مذهب آخر، فـ ابن القيم رحمه الله يقول هنا: هي المنازل في الجنة بالعمل، أما الدخول فبرحمة الله، وأما المنازل والدرجات فبالعمل، من يدخل الجنة برحمة الله -نسأل الله من فضله- لكن المنازل والدرجات تختلف باختلاف العاملين، فالله عز وجل يقول: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} [الزخرف:٧٢] أي: الدرجات والمنازل: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:٧٢] أما الدخول فعلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فهو برحمة الله.
وبعضهم يقول ويميل إليه ابن حجر: أن معناها: أنكم لما عملتم العمل، قبله الله منكم، وقبول العمل من الله رحمة، فمعنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إلا أن يتغمدني الله برحمته} أي يقبل عملي الصالح، ويتجاوز عن السيىء، كقوله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:١٦]
فهناك تقبل من الله للعمل الصالح، وتكفيره للسيء رحمة وهذا كأنه أولى -والله أعلم- وعليه كثير من أهل العلم؛ ولأن الآيات تأتي {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:٧٢] بالمقابلة والعوض، وعلق عليه الشيخ/ عبد العزيز بن باز، قال: إنها للسببية، وابن حجر يرى: أنها للمقابلة والعوض، فأما السببية، فإنه قد لا يدرى، لكن هي سبب في الأعمال، لكن الصحيح أن الله عز وجل يرحم من يرحم منا بقبول العمل، وبتكفير السيئات، وهي رحمة.
وأما قول البخاري (وقال عدة من أهل العلم) أبهم الكلام وهم أنس رضي الله عنه، وابن عمر، وأبو ذر , قالوا في قول الله عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:٩٢ - ٩٣] قيل: عن قول: لا إله إلا الله، فشاهد البخاري أنه لما قال: لا إله إلا الله اعتده عملاً، فالقول والاعتقاد والعمل كله دين، وهنا يريد أن يثبت هذا، ويريد أن يرد على الكرامية الذين قالوا: العقيدة إنما هي قول، وعلى المرجئة الذين قالوا: إنما هي اعتقاد وقول، ثم يريد أن يثبت أن القول والعمل والاعتقاد كلها دين من دين الله عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:٩٢ - ٩٣] أي عن قول: لا إله إلا الله، وهذا مذهب، وقيل: {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:٩٣] وهو رأي لبعض المفسرين: عما كانوا يعملون من الجرائم في الحياة الدنيا.
وقال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:٦١].
أي لمثل هذا النعيم الذي ذكره الله في سورة الصافات فليعمل العاملون، فاستدل به البخاري على أنه لابد أن يقدموا عملاً، فإنه دين يدخلون به الجنة، وهو دين الله عز وجل، وابن المبارك كان يدعو الله أن يتوفاه غريباً؛ لأنه ثبت في بعض الأحاديث أن الغريب شهيد، وأتى به السيوطي في تنوير الحوالك في شرح موطأ الإمام مالك، وذكر أن الغريب شهيد.
وكان ابن المبارك له ثوب يصلي فيه, فإذا صلى قال: [[اللهم أمتني غريباً وكفني في ثوبي هذا]] واستحب بعض أهل العلم مثل: ابن المبارك وإسحاق بن راهويه أن المسلم يدفن في ثيابه التي كان يصلي فيها ويصوم فيها، ويعبد الله فيها؛ لأن آثار العبادة عليها، ولذلك كفن صلى الله عليه وسلم في ثيابه التي كان يصلي فيها صلى الله عليه وسلم، وكفن أبو بكر في ثيابه رضي الله عنه.
الشاهد: أن ابن المبارك أنه لما حضرته الوفاة توفي في جيت -بلد من البلدان في الشمال- وهو غريب، فبكى غلامه وقال: يا أبا عبد الرحمن! أبعد العلم، وبعد الإفادة، وبعد تلك المجالس تموت وحيداً، قال: اسكت، فإني سألت الله أن يميتني غريباً، ثم التفت ابن المبارك، ثم تبسم وضحك - وهو في سكرات الموت- ثم قال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:٦١] وكأنه والله أعلم رأى مقعده في الجنة، أو رأى بعض المبشرات.