[وصف النبي صلى الله عليه وسلم لكفار قريش بيت المقدس]
قال الوليد بن المغيرة: لا تكذبوه يا معشر الناس -هذا من شيوخهم عاقل، لكنه مات كافراً هو أبو خالد بن الوليد، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: {ولعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً} فأخرج الله من صلب هذا المجرم - الوليد - خالد بن الوليد سيف الله المسلول، هذا خالد أبو سليمان، الذي أدب الطغاة على مر التاريخ، أرسل أبو بكر برسالة إلى مسيلمة الكذاب، يدعوه إلى ترك النبوة ويدعوه للدخول في الدين فرفض، قال أبو بكر على المنبر: والله لأرسلنّ لك أبا سليمان خالد بن الوليد يخرج منك وساوس الشيطان؛ فأرسل له خالداً؛ فذبحه، هذا خالد بن الوليد بن المغيرة - إنما الوليد بن المغيرة المقصود- قال: يا معشر الناس! لا تستعجلوا عليه بالتكذيب، أنا أعرف بيت المقدس -وهو من تجار قريش- وقد ذهبت، فأنا أعرف أبوابه وسراديبه ومداخله، فإن كنت صادقاً -يا محمد- أنك ذهبت إلى بيت المقدس فصف لنا بيت المقدس، أليس هذا هو الحكم العدل؟ بلى.
حكم عدل، فهذا إنصاف يرضاه ويؤيده العقل، وهذا هو الحوار.
الرسول صلى الله عليه وسلم دخل في الليل الدامس، ولم يرَ شيئاً من البيت، إنما دخل بيت المقدس وصلَّى بالأنبياء وعرج به، ولم يرَ شيئاً، قال: فأخذت الرحضاء والعرق يسيل من جبين الرسول صلى الله عليه وسلم، ويلتفت إلى الله عز وجل ألاَّ يخيبه -هذا موقف صعب؛ لأنه سوف يكون نتيجة لسنوات عديدة، أو لتاريخ الدعوة إلى آخر الأبد- قال: فالتفت إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم تجاه الحرم، فأتى الله بصورة بيت المقدس مكبرة؛ فوضعها أمامه، فأخذ يصفه لهم باباً باباً، وسرداباً سرداباً، وغرفة غرفة، قال الوليد بن المغيرة: والذي لا إله إلا هو، ما زدت ولا نقصت على وصف بيت المقدس بهذه، فأسلم جماعة من الجلوس وكفر آخرون.
قال الله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} [الحجر:١٤] اسمع أسلوب القرآن، يقول: لو فتحنا عليهم باباً سلماً، وصعد أبو جهل ومن معه حتى رأوا الملائكة والجنة، وظلوا فيه يعرجون: {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:١٥] فيقول الله لهم استهزاءً إذا أدخلهم النار يوم القيامة، قال: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:١٥] يقول: ذوقوا أفهذا السحر مثل سحر الدنيا أم لا؟
واستمر عليه الصلاة والسلام، قال الله فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة:١٠٤] وأتى صلى الله عليه وسلم وجمع حصيلته في الدعوة بعدما يقارب ثلاثة أسابيع، تدرون من الذي استجاب له؟
صهيب الرومي وخباب بن الأرت نافخ الكير الحداد، وبلال الحبشي من أرض الحبشة، وأمثالهم وأضرابهم، وابن مسعود راعي الغنم من هذيل، هؤلاء حصيلته عليه الصلاة والسلام.
فاقترب أبو جهل هو وكفار قريش، قالوا: يا محمد! نريد مجلساً معك، قال: اجلسوا، قالوا: والله ما نجلس معك وهؤلاء الأعبد والموالي معك، أخرجهم ونجلس معك، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يخرجهم ويطردهم ويأتي بهؤلاء السادة على منطق الجاهلية، فأنزل الله {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:٢٨] وقال: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:٥٢] فقال صلى الله عليه وسلم: {بل أكون معكم، بل أكون معكم} وطرد هؤلاء السادة؛ لأنهم لا يهتدون.
وفي اليوم الثاني جلس عبد الله بن أم مكتوم في الحرم، ورأى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اجتمع به سادات مكة، فأتى إليه يسأله مسألة فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، سأله وكان أعمى لا يرى والرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يكسب هؤلاء السادات حتى يدخلوا في الدين، فأعرض عنه؛ فأنزل الله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:١ - ٢] عبس: يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم خطاب الغيبة، يقول الله: عبس هذا من العتاب الحار {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:٢] سماه أعمى، يقولون: هنا من باب جلب عطف الرسول عليه الصلاة والسلام، بينما في سورة الرعد يقول: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:١٩] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:٤٦] فعمى العين سهل، ولكن عمى القلب هو البعيد والسحيق والمخيف، قال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:١ - ٤] قال: وما يدريك أن يكون منارة من منارات الأرض تتلقى نور السماء: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس:٥ - ٧].
يقول: أنت مشغول به وما عليك ألاَّ يتزكى، دعه في رجسه ونجسه، وفي الأخير تركهم عليه الصلاة والسلام وما استجابوا.
وأصبح ابن أم مكتوم قائداً عسكرياً ومؤذناً وعذره الله من الجهاد، وقال: والله لأخرجن بالراية، فقتل في القادسية، أما أولئك فإلى النار.
واستمر عليه الصلاة والسلام يدعو، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:٢٤] هذا أبو جهل يقول: لو كان فيما جاء به محمد هداية كان أبي وجدي دخلوا فيه، لكن ماتوا على غير الهداية، وقال الوليد بن المغيرة: لو كان في دينه هداية ما سبقنا هؤلاء الأعبد إلى دينه، كيف يسبقنا بلال؟
فيقول ابن القيم: نادى منادي الحق على الصفا فقال أبو جهل: لا سمع ولا طاعة، وقال الوليد بن المغيرة: لا نسمع ولا نطيع، وقال أبو لهب: تباً لك ألهذا دعوتنا؟ وقال بلال من أرض الحبشة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، دينه صلى الله عليه وسلم يناسب الضعفاء والمساكين، ويصعب على المترفين، لذلك ترى الظلمة والمستبدين لا يريدون أن يحكموا الإسلام في حياتهم، ولا يريدون أن ينتشر الإسلام؛ لأن الإسلام يلغي قداسة البشر، وظلمهم واستبدادهم.
ولذلك الشيوعية الآن عندما تنتشر لا تنتشر إلا في المناطق الضعيفة الفقيرة بدعاوى: رفع الظلم الكادحين الفقراء حقوق الشعب الضمائر فتنتشر في هذه الأوساط، أما الإسلام كله حق، ليس فيه تورية، يرفض الظلم، فوجد بلال هذا النور سوف يرفع الظلم عنه، فدخل هو والفقراء والمساكين، وترك المترفون دين الله ودائماً هم أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:١٦] وفي قراءة: {أَمّرْنَا مترفيها} [الإسراء:١٦] ومعنى أمَّرنا، قيل: كثرنا، وقيل: (أمَّرنا): جعلناهم ولاة أمر، وقيل: (أمَّرنا): جعلنا سوادهم كثيراً، وجعلنا لهم بقعة أو شريحة من المجتمع كثيرة، هذه سنة الله عز وجل.
واستمر عليه الصلاة والسلام، ووصل إليه من الإيذاء ما لم يجده رسولٌ قبله عليه الصلاة والسلام، وحتى كان يتذكر أيامه الأولى صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة، يقول: {والله لقد أخفت وما خاف أحد} أي: في أول الدعوة، يقول: كنت أخاف أنا وحدي في هذا العالم، في الكرة الأرضية لا يخاف إلا هو {وجعت وما كان يجوع أحد، ويسرت وما كان ييسر أحد، وأوذيت وما كان يؤذى أحد} وكان عليه الصلاة والسلام يسجد، ويبكي طويلاً ويسأل الله عز وجل، وكان سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يرفع من قيمته صلى الله عليه وسلم، ويرفع من معنويته، ويقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:٦٤] ويقول: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:٥٨] ويقول: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهَ} [الأنفال:٦٢] {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} [الأنفال:٧١] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:١٢٨].
يصل به اليأس إلى درجة الإحباط أحياناً، فيقول الله عز وجل له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:٦] يخاف من القتل، فيقول الله له: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:٦٧] أي: يمنعك، يخاف أن يغلب، فيقول الله له: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:٥١ - ٥٢] يخاف أن يهزم، فيقول الله له: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:١٧٣].
هذه ساعات ودقائق ولحظات من حياته عليه الصلاة والسلام طواها الزمن لكن ما طوتها القلوب، وعفا عليها التاريخ ولكن ما عفت عليها القلوب والأرواح والأفئدة التي تعيش معه صلى الله عليه وسلم أينما حل وارتحل، فقد سكن في ضمير كل مسلم في كل بقاع الأرض.