[أقوال العلماء في معاني التردد]
١ - قيل: يشرف العبد على الهلاك فيدعو الله فيشافيه الله عز وجل فيكون هذا من جهة التردد, لأنه أشرف على الهلاك، وكأن القضاء قرب منه وأراد أن يموت، فيعجل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى له بالعافية فيعود, فهنا هلاك وعافية فيصبح شبه تردد, هذا قول.
٢ - والقول الثاني: إن معناه: ما ردَّدت رسلي في شيء كترديدي إياهم عن قبض نفس عبدي المؤمن, أي: أن الله عز وجل إذا بعث الملائكة يكره مساءة العبد، فكأن ترداد الملائكة من محبتهم للعبد، ونفوذ القضاء والقدر في الوفاء كأنه تردد إرادتين.
وذكروا قصة موسى فقد جاء في الحديث الصحيح عند البخاري وغيره: {أن الله عز وجل أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام- وكان موسى رجلاً قوياً شجاعاً- فلطم موسى ملك الموت فأذهب عينه, فعاد ملك الموت إلى الله فرد عليه عينه} فقال أهل هذا القول: هذا تردد بين الملك وبين المتوفى فهو تنازع إرادتين, وهذا القول فيه ضعف.
وهذه الأخبار إذا سمعنا بها قلنا: {آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص:٥٣] وإذا سمعناها قلنا: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:١ - ٣] فنحن نؤمن بالغيب ونصدق ما جاء عن الله وعن رسول الله على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ونجعلها على العين والرأس.
يقول الشافعي: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله, وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
٣ - القول الثالث: أنه لطف وتدرج في قبض روحه فكأنه تردد, فإن الله عز وجل رحيم بالعبد المؤمن، فيتلطف في قبض روحه، فكأنه تردد.
٤ - وقيل -وهو القول الراجح-: يحب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ما يَسرُّ العبد, ويكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ما يسوء العبد المسلم, والعبد المسلم يسوءه الموت لما فيه من مشقة وكلفة, فكأن تعارض إرادة الحب مع ما يسر العبد وإرادة العبد فيه شبه تردد، وليس هناك تردد لأن التردد منتفٍ عن الله عز وجل, فكأن الله عز وجل يحب ما يسر العبد ولا يحب أن يسوءه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, فهذه إرادة وهذه إرادة، فوجود إرادتين لا وجود تردد؛ لأن التردد ليس بوارد عن الله عز وجل.
وهناك يقول: {إن الله لا يمل حتى تملوا} والله لا يمل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, حتى ولو مل العبد لا يمل الله, لكن مثل المقابلة: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة:٧٩] {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:٣٠] وهذه صفات نقص لا تليق به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لكنها على المقابلة.
وأما الموت فإن الله قال: يكره الموت, فكيف يكره المسلم الموت؟ المسلم يكره الموت لما فيه من صعوبة ولا يكرهه لما بعده, فالمسلم يحب لقاء الله إذا رأى ما عند الله وقت السكرات ورأى ما أعد الله له من نعيم, أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه.
ومن لقاء الله قد أحبا كان له الله أشد حبا
وعكسه الكاره فالله اسألِ رحمته فضلاً ولا تتكلِ
فالمسلم يكره الموت لما فيه من المساءة.
قيل لـ عمرو بن العاص وهو في سكرات الموت -وقد جاء بسند صحيح-: [[صف لنا الموت.
قال: كأن جبال الدنيا على صدري, وكأني أتنفس من ثقب إبرة]].
وقال عمر لـ كعب الأحبار: [[صف لنا الموت.
قال: يا أمير المؤمنين! ما أجد للموت وصفاً إلا كأن غصن شجرة من شوك ضرب بها الجسم فتعلقت كل شوكة بعرق, ثم سحب هذا الغصن فانسحب كل عرق في البدن]].
ولذلك يأتي الميت من الهول في السكرات، ويأتيه من العرق وخاصة المؤمن، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول -كما عند الترمذي -: {المؤمن يموت بعرق الجبين} يأتيه من العرق ومن الكلفة التي تذهب عنه بقايا السيئات حتى يلقى الله وما عليه سيئة، فالمؤمن يموت بعرق الجبين ويغشاه من الكرب ما الله به عليم.
بل الرسول عليه الصلاة والسلام تصبب عرقه، وكان يأخذ خميصة وهو في سكرات الموت ويضعها على وجهه ويقول: {لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، اللهم هوّن عليَّ سكرات الموت}.