للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الموازنة بين الحسنات والسيئات عند التقويم]

المسألة العاشرة: نلغي حسنات من أخطأ وننسى ما فيه من خير، وقد أسلفت هذا كما قال الله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:٨] فأين حسنات الناس؟ وأين ما فيهم من خير؟ انظر الآن إلى أهل السنة إذا تكلموا عن رجل, مثل: الذهبي -أضرب لك مثلاً- ترجم لـ قتادة بن دعامة السدوسي , المحدث, راوية البخاري ومسلم في الصحيحين، فذكر ما فيه من بدعة القدر، فقال: وكان رأساً في الزهد العبادة، ورأساً في التفسير والحديث، هذا ولا ننسى بدعته، وكذلك لا نطرح من حفظه.

فالمسألة مسألة ميزان، أن توازن بين الخير والشر في الإنسان، وأن تكون شاهداً لله على نفسك أو على الأقربين، وهذه هي الشهادة الحقة التي سوف يسأل عليها العبد: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:٨٦] وفي حديث يرويه ابن أبي خيثمة وفيه مقال أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لرجل وأشار إلى الشمس: {على مثلها فاشهد} فأين البينة؟: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ} [الأنعام:١٤٨] والله يقول: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:١١١].

أيضاً لماذا يصر كل منا على أن رأيه صحيح، ورأي غيره خطأ، إن هذه كارثة، لأنه اعتقاد بعصمة كلامه وعمله، فهذه مهلكة من المهالك، قرأت في فتح الباري في كتاب الرقاق: أن رجلاً سأل عبد الله بن المبارك فقال: رأيت مسلماً قتل مسلماً، فقلت لنفسي: أنا خيرٌ منه، قال ابن المبارك: "أمنك على نفسك أشد من جريمة قتله للمسلم".

وفي الصحيح أيضاً: {أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من الذي يتألى علي؟! أشهدكم أني قد غفرت لهذا وأحبطت عمل هذا} أي: حبط عمل العابد لأنه أعجب برأيه.

فأنت تدعوني إلى رأيك وتزعم أنك أنت المصيب، وأنا المخطئ فإلى متى؟!

فلا بد لنا من أن نتحاكم وإياك إلى الدليل، ثم ترضى بما حكم الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.

أيضاً: احذر أن يكون هناك شيء من الحسد بين الأقران، فإن أهل السنة يقولون: كلام الأقران يطوى ولا يروى، ومرض المقارنة مرض مزمن، ومرض المعاصرة مرض قديم، ولذلك حصل كلام بين مالك رحمه الله مع ابن إسحاق , ومحمد بن مندة مع أبي نعيم، وابن جرير مع أبي داود، وغيرهم، فالحذر من أن يكون بين الأقران شيء من الحسد ثم يتحول إلى حرب افتعالية وانتقام وتشفي بالكلمات, حتى تجد ذنب هذا أنه برز، حتى يقول أحدهم:

إذا محاسني اللاتي أدل بها كانت ذنوباً فقل لي كيف أعتذر

أي: إذا كان ذنبي عندك أنني برزت، وتكلمت ونفعت وأفدت فكيف أعتذر منها وهي محاسني؟

ويقول الآخر:

وشكوت من ظلم الوشاة ولم تجد ذا سؤدد إلا أصيب بحُسَّدِ

لا زلت يا صدق الكرام محسداً والتافه المسكين غير محَسَّدِ

أي: دائماً المرموقون محسَّدون، وأقول: لا بد أن ننزع الحسد وعداء الأقران من بيننا، ونتقي الله عز وجل، فإن الله تعالى قال في أوليائه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:٤٧] وقال عنهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:١٠].

{أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام عن رجل دخل عليه المسجد أنه يدخل الجنة ثلاث مرات, فتبعه ابن عمر ورأى عمله، فوجد عمله كعمل المسلمين، فسأله فقال: إنني لا أنام وفي قلبي غلٌ لأحد من المسلمين} وهذه قمة الأخلاق، وقمة الرقي والتقوى ومحاسبة النفس.

<<  <  ج:
ص:  >  >>