أمَّا بَعْد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، واعلموا أن رحمة الله عمَّت الكائنات، وأن أعظم صفات المولى تبارك وتعالى هي الرحمة، فهو رحمن رحيم، رحمن الدنيا والآخرة.
والملائكة يوم تتوسل إلى ربها ومولاها تبارك وتعالى تثني عليه بالرحمة، فتقول:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيم}) [غافر:٧] فرحمته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى تبلغ ما بلغ علمه، رحمته عز وجل لا تتناهى، خلق الرحمة -كما في الصحيح- في مائة جزء، فجعل جزءاً واحداً في الدنيا، يتراحم بهذا الجزء الناس والحيوانات والعجماوات؛ حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تطأه، وأما تسعة وتسعون من الأجزاء فادخرها الله عنده يوم القيامة، والله عز وجل خير الراحمين، قال تعالى:{وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}[المؤمنون:١١٨].
فرحمته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لا تتناهى، ولذلك طلب من عباده أن يكونوا رحماء، ومدح المؤمنين فقال عنهم:{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}[المائدة:٥٤].
فما أعظم رحمة الله! وما أجل هذه الصفة يوم يتذكرها العبد المسلم فيكون رحيماً بعباد الله!
وأبعد القلوب عن الله -تبارك وتعالى- القلب القاسي، فالله لا يحب الجبارين والمتكبرين، ولا الذين يحملون قلوباً قاسية لا تشفق ولا ترأف ولا ترحم ولا تلين.
قست قلوبهم باللعنة وهم بنو إسرائيل، وقست بقطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، وقست بالزنا والتناحر والتقاطع، ولذلك قال الله فيهم:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}[المائدة:١٣].
أُتي الرسول صلى الله عليه وسلم بسبيٍ من الكفار، وفي السبي امرأة والهة، أُخِذَ ولدُها من بين يديها وهو طفل رضيع، فأصبحت حائرةً مضطربةً، تبحث في السبي، فكلما وجدت طفلاً وضعته على ثديها وهي تبكي، حتى وجدت طفلها، فأخذت الطفل، فوضعته على ثديها وهي تبكي، وروحها تكاد يفارق نفسها فقال عليه الصلاة والسلام:{أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا، -والله- يا رسول الله! وهي تقدر ألا تطرح ولدها في النار، فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده! لله أرحم بعباده من هذه بولدها}.