للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الإفتاء بغير علم]

ظاهرة الفتيا بلا علم ظاهرة خطيرة، فإن الدعوة شيء والفتوى شيء آخر، يحق لك أن تكون واعظاً، متحدثاً، خطيباً، داعية، لكن لا يحق لك أن تكون مفتياً إلا إذا انطبقت عليك شروط الإفتاء، فالإفتاء شيء والوعظ شيء آخر، والوعظ لا يحجره أحد عليك، وسوف ترحب بك القلوب وتدعوا لك الألسنة، ويتقبل الله منك إذا أخلصت، وأما الفتيا فكأنك أوقفت نفسك تحت ضرب السيف، أو كأن السيف مسلول على رأسك، تخاف لأنك توقع عن رب العالمين سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:١١٦] فمن يفتي فهو كمن يوقع عن رب العالمين سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

فهذه الفتيا شأنها صعب وعويص، وطالب العلم في الفتيا بين خطرين، بين خطر أن يكتم شيئاً علمه الله إياه، وبين أن يتحدث بشيء لا يعرفه، والوسط هو المطلوب: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:١٨٧] فكتمان العلم أن تفهم المسألة وتعرفها كما ترى الشمس لا تعلمها، يقول لك أحد العوام: كيف كان يتوضأ عليه الصلاة والسلام؟ فيحملك الورع أن تقول: الله ورسوله أعلم، أو لا أدري، هذا ورع مظلم، لأن جملة طلبة العلم يعرفون الوضوء.

يسألك أحد الناس: كم أركان الإسلام؟ فتقول: الله أعلم، الفتيا صعبة كالسيف، وهل في هذا فتيا، هذا كتمان للعلم: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:١٨٧].

ويقابله فريق آخر يقول: لوقلت لا أدري في المجلس انكسر جاهي، وقال الناس: هذا لا يعرف، وتناقلوا عني في المجالس أني لا أعرف، وسقطت قيمتي في الناس، وما يعلم أن رفع قيمته قوله لا أدري في هذا الموقف، حتى يقول علي رضي الله عنه وأرضاه: [[ما أبردها على قلبي إذا سئلت عن ما لا أدري فقلت: لا أدري]].

ولذلك قال الله لرسوله في مواطن: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف:١٨٧] قل علمها عند ربي أما أنا فلا أعلم، ولذلك ورد عنه صلى الله عليه وسلم في حديث حسن أنه قال: {تُبَّع ما أدري هل هو رسول أو ملك} حتى قال بعض الحفاظ، حفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا أدري في ثلاثة أحاديث أو أربعة في علم الله.

فلا أدري ترفعك إذا كنت لا تدري؛ فهي نصف العلم، ونصف الجهل، فبعض الناس -ونعوذ بالله أن نكون منهم- إذا سئل في مسألة والناس مزدحمون خاف أن يقول: لا أدري حتى ولو كانت من المسائل العويصة، ومن المسائل التي تساقطت فيها عمائم الأبطال، وتكسرت فيها النصال على النصال، وركضت فيها الخيول، وكبت فيها السيول يقول: حكمها كذا وكذا، لأن لا أدري صعبة، وبعضهم يقول: فيها أقوال لأهل العلم، لأنه يجيب بمجموعة أجوبة ويقول: نسأل الله من فضله أن يصيب بعض الأجوبة، يعني تخميناً والله ذم الظن في القرآن فقال: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:٣٢] {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس:٣٦]

وقال حذيفة: [[ابدءوا بالعلم، فإنه اليقين قبل أن يأتي الظانون]] إذا علم هذا فإن الفتيا صعبة، ولكن الدعوة شيء آخر غير الفتيا.

<<  <  ج:
ص:  >  >>