[الرسول صلى الله عليه وسلم ينادي أصحابه]
وأما الرسول عليه الصلاة والسلام فنادى في الناس إلى الجبل, فأقبلت الكتائب, ولكن خانتهم الإبل والخيول ففرت، وفر كثير من الناس, بل الصحيح كما في السيرة لـ ابن إسحاق وغيره أنه لم يثبت إلا ثمانون, ثم فر الثمانون وثبت ستة, فأخذ صلى الله عليه وسلم ينادي في الناس ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني رسول الله، فلما رأى أنهم فروا من بين يديه وأن الرجل يركب جمله ليأتي يؤم القوم ويأتي للقتال، فيطرد عنه الجمل، فيترك الجمل، ويهوي على أرجله في الأرض، ويأخذ سيفه وقوسه، ويأتي صاحب الفرس على فرسه، فيأبى الفرس أن يعود لأنه جفل, فينادي عليه الصلاة والسلام في الناس فلا يسمعون في الأخير لما رأى أن الدائرة خاف أن تدور على الإسلام وأهله، ومعنى ذلك أن هوازن تصفي حساب هذه الرسالة الخالدة, وسوف ينتهي الإسلام ويقطع دابره من الأرض, فترجل صلى الله عليه وسلم وكان على بغلته, وقال: {أنا ابن العواتك} فلما وصلت أرجله إلى الأرض سل سيفه وقال: {أنا النبي لا كذب, أنا ابن عبد المطلب}.
فانتسب إلى جده عليه الصلاة والسلام, والعرب أمة ذكية إذا رأت المعركة ورأت الجيوش تهدَّرت بالشعر.
قال أهل السير: الرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى الموقف ورأى السيوف والرماح جاد خاطره بهذا البيت ليشجع نفسه, ويقول: {أنا النبي لا كذب, أنا ابن عبد المطلب}
وحرام عليه أن يفر؛ لأن الله قال: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:٨٤].
ثم قال: يا عباس! يا عم رسول الله؛ إذ كان في الناس وكان معه بجانب بغلته وفي الجانب الآخر أبو سفيان بن الحارث ابن عمه من مسلمة الفتح الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وكان العباس بن عبد المطلب جهوري الصوت, وكان كما يقول ابن حجر ينادي غلمانه من على سطح بيته وهم في الغابة فيسمعونه, قال: نادِ في الناس، فقال: يا معشر المهاجرين! يا معشر الأنصار! هلموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستجب أحد, لأن الخيول والإبل أخذتهم, ومسلمة الفتح أتى عليهم هذا الأمر سهلاً وطيباً؛ لأن بعضهم كان يضمر العداء للرسول عليه الصلاة والسلام, وكان منهم أبو سفيان بن حرب؛ لأنه أسلم يوم الفتح في مكة وفي نفسه ما فيها على الإسلام.
فقال لما رأى كتائب الرسول عليه الصلاة والسلام تفر: ما يردهم اليوم إلا البحر.
يعني: البحر الأحمر.
ويقول صفوان بن أمية: اليوم بطل السحر.
يظن أن الرسالة سحر أبطل اليوم, والرسول صلى الله عليه وسلم نادى في الأنصار؛ لأنهم بايعوه يوم العقبة على أن يحموه مما يحموا منه أولادهم وأطفالهم ونساؤهم وأموالهم, فهو يذكرهم ذاك الميثاق والعهد الذي بينه وبينهم عليه الصلاة والسلام, وهو يذكرهم ذاك العقد الذي وقعوه والذي أتى به -كما يقول ابن القيم - أتى به جبريل, وأملاه رب السماوات والأرض, والمشتري الله عز وجل, والسلعة الجنة, والثمن أرواحهم: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:١١١].
ناد يا أهل الشجر.
قال: يا من بايع رسول الله تحت الشجرة, يا من تنزلت فيهم سورة البقرة, فلم يجب أحد، قال: ناد بني الخزرج وهم القبيلة الثانية من قبائل الأنصار, لأن الأنصار قبيلتان: الأوس والخزرج، فنادى في الخزرج فلم يجب أحد.