[ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة]
ويستمر هذا الإخاء عطراً ويزداد دائماً، ويشده دائماً عليه الصلاة والسلام شداً عظيماً، فيأتي هذا الإخاء بأكله وثماره في آخر لحظة من لحظات المجاهدين في اليرموك، يُقتل أربعة من الشهداء عند خالد، فيأتي بماء بارد، فيعطيه: الحارث بن هشام أخي أبي جهل، فيرفض أن يشرب قبل ابن أخيه عكرمة بن أبي جهل، فيدفع الماء لـ عكرمة، فإذا رجل من المسلمين هناك جريح، فيأبى أن يشرب، فيعاد الماء للأول؛ فيجدونه قد مات؛ والثاني قد مات؛ والثالث قد مات، فيأخذ خالد الماء ويرمي به، ويقول: اسقهم من جنتك يا رب العالمين.
قال سبحانه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:٩].
وهو الذي جعله عليه الصلاة والسلام سارياً في الناس حتى يجود الأخ بالنوم لأخيه، وابن القيم له كلام لطيف في مدارج السالكين قال: ومنهم من يجود بالنوم، أي: يساهر ضيفه ويسامر ضيفه فيجود بنوم مقلتيه حتى يمدحه الأول، فيقول:
مُتَّيم بالندى لو قال سائله هب لي جميع كرى عينيك لم ينم
لو قال له: أعطني نوم عينيك، فسيقول له: خذه.
وهذه مستويات بلغها بعض الناس.
لكن الخلف -حتى من الملتزمين- قد يغفلون مادة الإيثار، ويدرسون مادة الاستئثار، فنحن نعيش الآن عودة إلى الله مباركة، ورجعة في جانب الشباب، لكن مادة الإيثار ضعيفة.
وهناك مادة الاستئثار، فإذا أتى الزملاء يتكلمون؛ تقدم بعضهم على بعض حتى في الفتيا، وهي من المغارم وليست من المغانم، إذا عرضت الفُتيا في المجلس تسابق الشباب وطلبة العلم أيهم يقحم نفسه ليكون مستأثراً، لكن بمغرم لا بمغنم.
يقول أحد التابعين وهو يرى شباب التابعين يتسابقون بالفتيا: " والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتتسابقون على مسائل من الفتيا لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر "، وقد كان الصحابة يتدافعون الفتيا، وقد ورد في الأثر: [[أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار]].
ومع ذلك: يستأثر أحدهم أن يُفتي، ويستأثر بصدر المجلس، ويرى أنه صدر، وأن غيره ظهر، ويستأثر في الطريق، وصدر الدابة، والمرتبة الأولى في السيارة والاحتفاء والعناق، وأن يُقدم ويُكلم بين الناس والدخول والخروج؛ ليكون رئيساً في الناس، وهذا حب الصدارة وحب الإمرة وشهوة الظهور، وهذا مرض نشكو إلى الله منه، عسى الله أن يشافينا منه.
هؤلاء هم الخلف، وهذه هي مدرستهم الاستئثار، ومدرسة السلف الإيثار.