[الرضاع ومسيرة الحياة]
وأول من أرضعته ثويبة أمة عمه أبي لهب , هذه ثويبة بشَّرت أبا لهب -لا بشَّره الله إلا بالخزي وقد فعل- فقالت له: ولد لأخيك عبد الله ابن سموه محمداً, قال: أنت عتيقة, فما كان جزاؤه عند الله؟
جعل الله له سُبحَانَهُ وَتَعَالى عيناً من ماء، وهذا في صحيح البخاري، كلما أتى يوم الإثنين تفجَّرت، فشرب منها في نار جهنم جزاء عتقها, كلما أتى يوم الإثنين تفجرت من راحة أبي لهب عين يشرب منها، لأنه أعتق ثويبة , لكنه كفر بلا إله إلا الله, وأخذ التراب وحثا به على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم, وهو الذي قال: تباً لك ألهذا دعوتنا؟ فأنزل الله: {تَبَّتْ يَدَا أبي لهب وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:١ - ٢].
وكان من عادة العرب أن يلتمسوا المراضع لمواليدهم في البوادي, ليكون أنجب للولد, وحتى يكون أفصح، وأفصح من يتكلم بالضاد هو رسولنا عليه الصلاة والسلام, ما تلعثم في كلمة, ولا توقف في خطاب وحديث: {أنا أفصح العرب بيد أني من قريش} ليس بصحيح لكن معناه صحيح, فليس هناك رجل أفصح منه صلى الله عليه وسلم, يرتجل الخطبة, ويتكلم في الجماهير, تكلم في الحج في مائة ألف, قالوا: فأوصل الله كلامه حتى بلغ كل أذن والناس في الخيام, وكان إذا صعد المنبر سمع للقلوب حنين من البكاء, حتى يقول شوقي:
وإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو الندي وللقلوب بكاء
هذا هو رسولنا عليه الصلاة والسلام, وكانوا يقولون: إن المربى في المدن يكون كليل الذهن، فاتر العزيمة, وهذا أمر ملحوظ، أبناء المدنية إذا ما فتحوا أذهانهم بالعلم والتربية الصحيحة يأتون بلداء أغبياء, ليسو كأبناء القرى, وأحد المؤرخين له كتاب عصري، يقول: إن عظماء العالم والمكتشفين حتى في الغرب كلهم من أبناء القرى, وحتى المشاهير, ليسوا في المدن, والمدن تحبس من قدرة الإنسان وتجعله -إن لم يرحمه ربك- جباناً، والآن انظر إلى ابن المدينة وابن القرية, هذا في الجملة، فترى ابن المدينة بعد صلاة المغرب وهو طفل لا ينزل, ويتخوف من كل شيء, وابن القرية الليل أخوه وهو أخو الليل.
فالمقصود: ذهب به صلى الله عليه وسلم إلى بني سعد في الطائف , وكانوا من جيران الطائف، وأنتم تعرفون الآن مكان بني سعد, فأخذته حليمة السعدية -مرضعة الرسول صلى الله عليه وسلم- وكان لها ناقة عجفاء، ركبت عليها وأخذت هذا الطفل، من هذا الطفل؟ إنه محمد صلى الله عليه وسلم, أخذته على الناقة وهو ما زال طفلاً -وجلسنا بإذن الله، ثم بدعوته في هذا المكان- أخذته على الناقة عليه الصلاة والسلام وكانت ناقتها عجفاء, فلما ركب صلى الله عليه وسلم الناقة، مشت الناقة على أحسن ما يكون, فلما وصل إلى الديار, قالت: كانت ديارنا ممحلة قحطاء لا عشب فيها ولا لبن ولا ماء, فلما نزل, وصل الغيث بإذن الله, قال: فنبت النبات، وسار الزهر، وحلبوا من اللبن, وذلك فضل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى, فجاءت نسوة من بني سعد بن بكر يطلبن أطفالاً ليرضعنهم, فكان الرضيع المحمود من نصيب حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية واسم زوجها أبو كبشة , وهو الذي كانت قريش تنسب له رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يريدون الاستهزاء به، يقولون: هذا ابن أبي كبشة, وقد فعلها أبو سفيان اقترف في عرضه عليه الصلاة والسلام, عند هرقل لما أرسل صلى الله عليه وسلم بعد النبوة -انظر هذا التطور- يصبح صلى الله عليه وسلم من المدينة المنورة عاصمة الإسلام يرسل رسائل يتهدد ملوك الأرض, الإمبراطوري المجرم الدكتاتور هرقل يتهدده صلى الله عليه وسلم، ويروعه فيما بعد بأصحابه, بناصيته وينزله في الأرض، وتحكم دولته بلا إله إلا الله محمد رسول الله, اسمع الرسالة من الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا من أوائل أحاديث البخاري: {بسم الله الرحمن الرحيم, من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم, السلام على من اتبع الهدى, أمَّا بَعْد: فأسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فعليك إثم الأريسيين} {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:٦٤].
وصلت الرسالة عند هرقل , وأقامت له الدنيا وأقعدتها, لأن الخطاب مهدده, بعد الرسالة وهي ثلاثة أسطر فيها خاتم رسول الله: (محمد سطر, ورسول سطر, والله سطر) بعدها جيش جرار يزحف من الجزيرة يحطم تلك الإمبراطورية الظالمة, ماذا فعل هرقل؟
جمع القساوسة, والبطارقة، والوزراء، والحجاب, واجتمعوا ثم دعا أبا سفيان , وكان أبو سفيان عدواً للرسول صلى الله عليه وسلم آنذاك، وكان مشركاً, لكن كان يبيع ويشتري في الشام , فدعاه وسأله عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقارب عشرة أسئلة وهي في أول صحيح البخاري , وفي الأخير قال: أخرجوه, فأخرجوه؛ فإذا اللغط قد كثر, قال أبو سفيان: لقد أمِرَ أمرُ ابن أبي كبشة إنه ليخافه ملك بني الأصفر -يقول: هذا الذي عندنا نستهزئ به في مكة أصبحت الدنيا تشتغل به, وأصبح حديث الناس في المجالس وحديث الساعة، نعم.
قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:١ - ٥].
ودرت البركات على أهل ذاك البيت، كما ذكر الشوكاني عن بعضهم:
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هنداً عشية تمشت وجرت في جوانبه بردا
ويقول المتنبي في أحد العظماء:
وكذا الكريم إذا أقام ببلدة سال النضار بها وقام الماء
يقول: الكريم إذا نزل في مكان يسيل الذهب, ويحيي الماء الأرض, وهذا أشرف من يقال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام, وكانت مدته للرضاعة صلى الله عليه وسلم التي رضع فيها وبقي في البادية تربو على أربع سنوات عليه الصلاة والسلام.