[موقف الإمام أحمد مع المعتصم]
لما مات المأمون تولى الخلافة بعده المعتصم الخليفة العسكري الرهيب الفولاذ، الذي كان من أقوى الناس في التاريخ.
يقول أهل التاريخ: كان ينصب له أوتاد في الأرض، ثم يربط رجليه بالأوتاد، ويأتي بالفرس ويقفز من على الأرض على الفرس، لأنه مدرب منذ نشأته على الفروسية، فيقفز فيقتلع الربط، أو يقطع الخيوط، فإذا هو على ظهر الفرس، هو صاحب عمورية وهي من حسناته، وهو القائد الذي زحف بتسعين ألفاً، يقول أبو تمام:
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب
وهنا أذكر القصة باختصار رغم أنها مكرره:
كرر العلم يا جميل المحيا وتدبره فالمكرر أحلى
امرأة في عمورية في بلاد الروم، بينها وبين المعتصم فيافي وقفار، لعب عليها رومي وضربها، وقيل: شبك ثوبها بإزارها، فقامت فانكشفت عورتها؛ فقامت وصاحت: وامعتصماه! فتضاحك أهل الروم، وقالوا: انتظري المعتصم حتى يأتي على فرسه الأبلق ينصرك، فسمعها مسلم، فركب البحر، ووصل إلى المعتصم وهو في سامرا، وهي عاصمة بجانب بغداد وكانت تقع على شق من نهر دجلة ونهر الفرات وكان في قلبها المعتصم.
فدخل الرجل عليه، وقال: عندي رسالة؟ قال: ما هي؟ وكان المعتصم جالس مع أمرائه وعلمائه ووزرائه، قال: رأيت امرأة أهينت، وقالت: "وامعتصماه " فقفز من على سريره، قال: والذي لا إله إلا هو لا يغشى رأسي ماء من جنابة حتى أدوس أرضهم بالخيل، وأحرق مدنهم وقصورهم، وكان إذا حلف حلف، وإذا أقسم أقسم، ثم استنفر الناس يوم الجمعة، وقال: من تخلف وهو قادر فاضربوا رأسه بالسيف، وأما المفتي للجيش فهو محمد بن الحسن الشيباني، وقواد الجيش فلان وفلان وفلان، وعليكم أن تصوموا هذه الأيام ونحن متوكلون على الله عز وجل، وأكثروا من التوبة والاستغفار، وجاء الخبر إلى بلاد الروم فقامت قيامتهم، وأخذوا يتحصنون بالمتاريس والدروع، وينصبون الكمائن، ويسدون خطوط الرجعة، وينزلون الكتائب تتدرب يوماً بعد يوم؛ لكن قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:١٨] وقال سبحانه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:١٧] زحف ووصل إلى بلاد الروم، واستقبلته أول مدينة فأحرقها عن بكرة أبيها، قال: لا تهاجموا كل مدينة، ولكن أحرقوها إحراقاً، فأخذت تلتهب فأدخل الرعب في قلوبهم، حتى قال للمنجمين الخرافيين المتخلفين: أأذهب هذا الشهر أم الذي يليه؟ فقال بعض المنجمين: نخاف إذا ذهبت هذه السنة -لأن بعضهم أعاجم يخافون، لا يريدون أن يذهب إلى الروم- ألا تنتصر فنخاف أن تفشل، قال: والله الذي لا إله إلا هو إني متوكل على الله، فزحف، فلما انتصر؛ قام أبو تمام الشاعر، وقال:
أين الرواية أم أين العلوم وما صاغوه من دجل فيها ومن كذب
رواية وأحاديث مطلسمة ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
فالنصر في شهب الأرماح لامعة بين الخميسين لا بالسبعة الشهب
يقول: النصر في الرماح والسيوف ليست بالسبعة؛ لأن المنجمين يعدون السبعة الشهب.
فلما قاتل انتصر وإذا بالمدن تنهزم أمامه حتى وصل إلى عمورية، هذه العاصمة، ثم قال لقاداتهم: انزلوا إلينا فنزلوا، فأخذ قائد منهم يقتل الواحد من المسلمين تلو الواحد حتى قتل سبعة، وفي الأخير قال المعتصم: كيف يقتلنا؟! فخرج له الخليفة المعتصم فتناوله فقطع رأسه حتى كأنه وليس خلق له رأس، ثم أخذ يزحف حتى استولى على المدينة، وقال: أين المرأة؟ فبحث عنها وأُتي بها، قال: أين الرجل؟ قالوا: لا نعرفه، قال: لتخرجنه أو لندوسنكم دوساً، فأتوا بالرجل، وقدموه له.
فقال للمرأة: هذا لك رقيق، وأنا المعتصم، وهذا فرسي الأبلق، قالت: قد أعتقته لوجه الله، وجزاك الله خيراً عن الإسلام والمسلمين، قال أبو ريشة عن فلسطين التي فيها كم من امرأة وطفل يقولون صباح مساء: وامعتصماه، لكن الله الناصر.
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
ألإسرائيل تعلو راية في حمى المهد وظل الحرم
أو ما كنت إذا البغي اعتدى موجة من لهب أو من دم
هذا المعتصم لا يعرف في العلم شيئاً، يعرف السيف، وكسر الرءوس، وضرب الأكتاف.
قال ذات يوم: عليَّ بـ أحمد بن حنبل، فخرج الإمام أحمد بن حنبل من داره في برد الشتاء وركب على فرس، رجل هزيل أنهكته العبادة والدموع في الليل، وخشية الله ومناجاته، وتلاوة كتابه، قال الإمام أحمد: [[والله ركبوا عليَّ من الحديد ما كان يعادلني وزناً]] أي: لو وزن الحديد والإمام أحمد بن حنبل لكان الحديد أكثر، جعلوه في يديه وفي عنقه وفي قدميه، ماذا فعل؟ أسرق أموال المسلمين؟! أسفك دماء المسلمين؟! لا.
لكنه وقف ليقود السنة في وجه البدعة، قال: ذهبت فكدت أسقط عن الفرس، وكان يقول الإمام أحمد: يا حافظ! يا حافظ! الله الحافظ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال: فأدخلت السجن في المحبس، فما دريت أوجهني الله للوجهة -أظنها القبلة- قال: والتمست فوجدت في الظلام ماء فتوضأت، انظر! يريد أن يصلي في الليل، لو كان بعض الناس في مثل هذا الموطن لترك المغرب والعشاء والعيد والتراويح، وقال: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، أصلي زيادة؟! لكن الإمام أحمد توضأ وأخذ يصلي إلى الفجر.
ويوم طلع الفجر يقول للسجان: أطلع الفجر؟ قال: نعم، فأخذ يتسحر من سواق عنده -حب شعير مطحون- كان يأخذ حفنة ويجعله في الماء ثم يخوضه ويأكله وفي الصباح قدموا له الإفطار، والمعتصم يعرف أنه الإمام أحمد ويعرف مكانته، يقول المعتصم: والله لا أفطر ولا أتغدى ولا أتعشى، إلا بعد الإمام أحمد، فيمر بالموائد، ويقال للإمام أحمد: تفضل! فيقول: لا آكل لكم شيئاً، فيذهبون إلى المعتصم ويخبرونه، فيقول: اتركوه ما دام عرضتم عليه الأمر، ومكث ستة أشهر وهو في السجن.
وفي الأخير أحضره المعتصم فقال: يا أمير المؤمنين! ائتني بآية أو حديث، ائتني بأثر، فما وجد شيئاً.
وقاد هذه البدعة أحمد بن أبي دؤاد فهو أحمد أهل البدعة وأحمدنا من أهل السنة:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد بن عمرو والأغر بن حاتم
ففاوضوه، وفي الأخير جُلِدَ جلداً عنيفاً، وقد ذكر الذهبي في بعض الغرائب التي نقلها ابن الجوزي أنه كان عليه ثيابه، وسأل الله ألا يتكشف، فما تكشف أبداً، وكانوا يقولون: كأنما أمسكت عليه ثيابه، وجُلِدَ وأغمي عليه، قال الإمام أحمد: ما نفعني الله إلا بكلمة عيار -سارق- في السجن، قال لي: يا أحمد! أخذوني في السرقة، وفي أمور النهب، وسجنت سبع مرات، وجلدوني أكثر من خمسة عشر ألف سوط، وأنت على الحق فاصبر.
فـ أحمد يجلد لتنتصر لا إله إلا الله والإسلام، وفي الأخير حاولوا معه فرفض، قالوا: قل: كلمة، قال: ولا أقول كلمة.
وكان الذين ساسوا له العذاب ثلاثة وزراء:
أحمد بن أبي دؤاد، وأحمد الزيات، ورجل آخر اسمه: ابن هرمة فدعا على الثلاثة، أما أحمد بن أبي دؤاد فدعا عليه وقال: اللهم عذبه في جسده، والإمام أحمد دعوته مستجابة، ودعا على ابن الزيات اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر، وقال للثالث: اللهم امحقه.
فأما أحمد بن أبي دؤاد: فشل نصفه، ويبس نصفه، حتى كان يقول للناس: أما نصفي فوالله لو وقع عليه ذباب كأن القيامة قامت، وأما النصف الآخر: فوالله لو قطع بالمناشير أو قرض بالمقاريض ما أحسست به أبداً.
وأما أحمد الزيات، فقد أخذ فجعل في فرن من جمر، وضربت على رأسه المسامير حتى مات.
وأما الثالث: فأخذ وطرح للفيلة، وقيل: للأسود فأكلته وجعل شذر مذر.