للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تبسم نور الدين وحرصه على محاربة المنكر]

يقولون: ما تبسم نور الدين قط، وقد ذكر ذلك الذهبي، قالوا: وهم يتلون حديث الرسول عليه الصلاة والسلام المسلسل بالتبسم، ومعنى المسلسل بالتبسم: أنه تبسم صلى الله عليه وسلم ثم تبسم الراوي من الصحابة، ثم التابعي، وهذا هو المسلسل بالتبسم.

فلما وصل إليه التبسم، قال له المحدث: يا نور الدين تبسم قال: كيف أتبسم وبيت المقدس في يد الصليبين؟ قال الذهبي: لو تبسم لكان أحسن؛ لأن التبسم صح عن معلم الخير عليه الصلاة والسلام.

فقد تبسم صلى الله عليه وسلم وقال في الحديث الصحيح: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} وقال جرير بن عبد الله في الصحيح: {ما رآني صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي} وكان يقوم في السحر كما ذكر الحفاظ، ويقول: اللهم إني أسألك مسألة، أن تقتلني شهيداً في سبيلك.

وكان إذا قام الإمام في المحراب للصلاة، قال: اللهم خذ من دمي حتى ترضى.

فهل سمعتم صدقاً كهذا الصدق؟ وهل هناك أغلى من الدم؟

اللهم خذ من دمي حتى ترضى.

وأنقل لكم قصيدة من البداية والنهاية ذكرها ابن كثير ومدحه فيها وأثنى عليه، وكان كلما كتب أسطراً ترحم عليه، وسأل الله له المغفرة.

عمل نور الدين مهرجاناً في دمشق استعرض فيه جيشه المسلح ليغزو عكا ويافا، ويطهرها من الصليبين ويخرج الفرنجة، فاستعرض الجيش كله وحضر الأمراء والوزراء والعلماء ووجوه الناس، وأصبح يوماً من أيام الله، وفي أثناء ذلك العرض خرج عليهم الواعظ أبو عثمان المنتخب بن أبي محمد الواسطي وهو من علماء الأمة وكان زاهداً، يقولون: كان لا يملك من الدنيا إلا قعباً وصحفةً وعصاً وجبة عليه، وما كان يأخذ المال من نور الدين أبداً؛ بل كان يرفض، فخرج وقطع الحفل عليهم، ووقف أمام نور الدين وقد سمع أن هناك خمراً يباع في شمال سوريا، فأراد أن يخبر السلطان.

قال: يا نور الدين! عندي قصيدة.

قال: قل.

فوقف أمام الناس وقال:

والقصيدة في البداية والنهاية صفحة (٣٠٢) من المجلد الثالث عشر- يقول:

مثل وقوفك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور

إن قيل نور الدين رحت مسلماً فاحذر بأن تبقى وما لك نور

يقول: احذر يوم القيامة أن تأتي ولا نور لك.

أَنَهيت عن شرب الخمور وأنت في كأس المظالم طائش مخمور

كانوا يسمونه الملك العادل على مر التاريخ، ويقول أحد المؤرخين المتأخرين، وذكره أبو الأعلى المودودي وغيره، يقول: عدول الإسلام ستة: الخلفاء الراشدون الأربعة، وعمر بن عبد العزيز ونور الدين محمود، قال:

أَنَهيت عن شرب الخمور وأنت في كأس المظالم طائش مخمور

عطلت كاسات المدام تعففاً وعليك كاسات الحرام تدور

ماذا تقول إذا نقلت إلى البلى فرداً وجاءك منكر ونكير

ماذا تقول إذا وقفت بموقف فرداً ذليلاً والحساب عسير

وتعلقت فيك الخصوم وأنت في يوم الحساب مسلسل مجرور

وتفرقت عنك الجنود وأنت في ضيق القبور موسد مقبور

ووددت أنك ما وليت ولاية يوماً ولا قال الأنام أمير

وبقيت بعد العز رهن حفيرة في عالم الموتى وأنت حقير

وحشرت عرياناً حزيناً باكياً قلقاً وما لك في الأنام مجير

أرضيت أن تحيا وقلبك دارس عافي الخراب وجسمك المعمور

أرضيت أن يحظى سواك بقربه أبداً وأنت معذب مهجور

مهد لنفسك حجة تنجو بها يوم المعاد ويوم تبدو العور

قال: فبكى السلطان بكاء شديداً حتى أغمي عليه ورش بالماء، ثم قام بعد أن رشوه بالماء وأرسل جيشه ألا يبقى مقس ولاعشَّار ولا مكان للخمر ولا للربا إلا ينهى ويباد، ويرفع له بذلك مذكرات ليطمئن، هذه من ابن كثير.

<<  <  ج:
ص:  >  >>