للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الشعور وقت الرجوع إلى جدة]

أما آخر فقرة فهي: يوم هبطنا في مطار جدة، أتينا من بلاد موحشة، كانت تمر بالإنسان بعض اللحظات، وهو بين الولايات الشمالية الست وحده، من طائرة إلى طائرة، وهو يظن أنه لن يعود، وذلك لأنه:

أولاً: ليس عنده لغة يمكن أن تنقذه، وبعض الناس استطاع بلا لغة أن يمشي من مكان إلى مكان.

ثانياً: في يد مَن أنت؟ في يد مجتمع لا يتحاكم إلى أمر الله.

ثالثاً: يفقد إخوانه وأصحابه، فلا تنظر إلا في وجه كافر أو كافرة، وملحد وملحدة، ومعرض ومعرضة، فهم كالغنم تماماً أو كالبهائم، بل البهائم والأنعام أهدى منهم سبيلاً.

فمشينا من هناك، وكان بنا من الفرح العظيم ما الله به عليم، لسان حالنا يقول: نعود إلى مهبط الوحي، إلى أرض الرسالة وأرض الإسلام، إلى أرض السلام، والقرآن، إلى أرض محمد عليه الصلاة والسلام، إلى أرض أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، إلى أرض خالد وطارق وصلاح الدين، إلى أرض مالك وأحمد والشافعي وأبي حنيفة، إلى أرض ابن تيمية وابن القيم، إلى أرض النبلاء والشهداء، والعظماء والكرماء والأتقياء.

فلما قربنا من جدة، وأخبرنا الكابتن بوصولنا، شعرنا كأننا عشنا بعدما متنا، أصبح أطرف الناس في جدة كأنه عندي من الصحابة، وأصبحت الأسفار قريبة، وأول ما نظرنا إلى إخواننا الذين سجدوا لله وأعلنوا ولاءهم له؛ حمدنا الله عزَّ وجلَّ على أن جعلنا مسلمين، وحمدنا الله على أنه لم يحولنا إلى تلكم الأمة: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:١١٠] لقد انسحقت هذه الحضارة، يقول سيد قطب عن أمريكا: لا تصلح أمريكا إلا أن تكون ورشة للعالم، صحيح أن فيها مسامير وطائرات، وفيها صواريخ، ومصانع، وفيها تكنولوجيا وتقدم حضاري، وفيها أمور عجيبة؛ لكن ليس فيها أمن ولا سكينة، ولا عدل ولا اطمئنان، ولا إيمان ولا مراقبة، ولا تكافل ولا رحمة؛ لأنها التحقت بالكفر: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:١١٠].

في أمريكا تنظر إلى الغنى الفاحش، إلى السحاب، وإلى الفقر الفاحش إلى التراب.

في أمريكا تنظر إلى جمال الطبيعة، جميلة جد جميلة، ولكنك تنظر إلى القُبح في أهلها، تنتقل إلى الحديقة وتنظر إلى زهورها وأشجارها، فتحمد الله وتزداد إيماناً، وتريد أن ترتاح، فتنظر إلى الرصيف، فتجدهم يتسافرون كالكلاب، فتنقبض روحك، وينقبض جسمك، ويقشعر كيانك من هذا الوضع.

وهناك قوم مؤمنون ودُعاة، وعدد المسلمين في أمريكا أكثر من خمسة ملايين مسلم أو أكثر، مدينة ريفر وايت فيها مائتان وخمسون ألف يمني، بأطفالهم وبأهاليهم، وكأنهم في قلب صنعاء، وهناك مساجدهم ومجالسهم، واجتماعاتهم ودروسهم، أمر عجيب! وفي مدينة واحدة ثلاثون ألف فلسطيني أكثر الناس ذكاءً هم ستة، من مصر العربية: فاروق الباز الذي أنزل مركبة الفضاء، ورجل مصري آخر نسيتُ اسمه الآن، وأربعة غيرهم يدخلون معهم، بل هم أذكى بكثير ممن اكتشف بعض المكتشفات، هناك دعاة مؤمنون، خرجوا وهم لا يعرفون من الإسلام شيئاً، خرجوا ملاحدة شيوعيين، ففروا إلى أمريكا، ولما وصلوا اعتنقوا الإسلام والإيمان، وأصبحوا دعاة، تجد الواحد بلحيته البهية وطلعته؛ كأنه نجم في غيهب الليل.

وصلينا المغرب في توسان، فاجتمع معنا أناس عراقيون، فألقيت في عشر دقائق كلمة عادية، فسالت دموعهم على لحاهم، وقلتُ: ما لكم؟ قالوا: ذكرتنا بالبيت الحرام، وذكرتنا بالقرآن وبالصحابة وبالرسول، ونحن نعيش غربة.

فإذا أردت أن تدخل إلى قلوب المسلمين هناك فقل له: أتيتُ من بلاد الإسلام، تركتم الأهل والأوطان، تركتم الإخوان والخلاَّن، تركتم الأصحاب والأحباب، وأنتم بين ملاحدة وزنادقة، أنتم في غربة ووحشة، فستأتيك الدموع تنهمر من الكلام ما لا يعلمه إلا الله:

بكت عيني غداة البين دمعاً وأخرى بالبكا بخلت علينا

فعاقبت التي بالدمع ضنت بأن أغمضتها يوم التقينا

وادَعْنا بعض الناس، وهم طلبة من جدة في بعض الولايات، فوقفوا معنا في المطار، ثم اعتنقناهم واعتنقونا، فما كادوا أن يتركوننا، وضج بكاؤهم في صالة المطار، وبقيت دموعهم ودموعنا هناك، ولكن عسى الله أن يجمع بيننا وبينكم وإياهم في الجنة:

إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا

بِنْتُم وبِنَّا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفَّت مآقينا

قال رجل هندي: بماذا توصيني؟ فأخرجتُ له المصحف وقلت له: أوصيك بهذا، فبكى حتى جلس.

ويقول أحدهم وهو مغربي: والله لقد خضنا كل شيء، جربنا الرأسمالية، جربنا الإلحاد، جربنا الشيوعية، جربنا العلمانية، فما وجدنا إلا الإسلام: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:٢٢] وقال سبحانه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:١٢٥].

<<  <  ج:
ص:  >  >>