للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[المسألة الأولى في التربية: الاهتمام بالإيمانيات]

كيف نوصل الإيمان إلى قلوب الناس؟

إن التحدث في السلوك قبل الإيمان لا يجدي، وقد يتأدب الكافر، ولذلك -أنا أقول هذا-: قد تجد الكافر أحياناً في باب السلوكيات أكثر تأدباً من المسلم الذي يصوم ويصلي، وتجد الآن بعض الأعراب لا يعرفون من السلوكيات شيئاً، لكنك لو تعاملت مع الأمريكي والفرنسي لوجدته في باب الأدب عنده شيء عجيب، عندهم من أصول الأدب أن يتبسم في وجهك، هذا موجود ومعلومٌ من سيرتهم، ومن رؤيتهم، ومن معاشرتهم، عندهم من الأدب مثلاً: ألا ينظر إليك نظر استغراب، لأنهم يرون في العرف ألا ينظر الإنسان بنظر غير نظر حاجة، فإن هذا يتركك وشأنك، لكن تعال إلى بعض الناس ممن يصوم ويصلي فقد تجده لا يعرف هذا، قد يطؤك برجله في السيارة ولا يعتذر إليك بل يقول: لماذا تطأ رجلي؟ يضربك بكوعه، أو بيده، فيقول: ليس عندك أدب! فيتعامل معك بغلظة وهو يطلب منك العذر، فمسألة الأدبيات قد يفوز بها الكافر، لأنهم يتعاملون بالتعايش السلمي، أو بالنفع المادي، أو بالمقابلة المشتركة، وهذا يريدون به الدعاية، أو يريدون به أغراضاً مادية، أو أنهم جبلوا على ذلك من تربيتهم، فعندهم تربية، ويدرسون التربية في جامعاتهم.

وبعضهم يدعو إلى الأخلاق، ويقول: إن الوحدة المشتركة بيننا وبين العالمين الأخلاق، وهذه خطة ماسونية، يقولون: دعونا والناس، كلنا إذا أصلحنا أخلاقنا صلحنا، مثل بعض المفكرين في بعض كتبهم يقولون: المسلم ليس جراحاً، ولا عياباً، ولا سباباً، وصدقوا في هذا، لكنهم يريدون أن يتوصلوا إلى الوحدة الإنسانية، فيقول: تعامل مع الروسي مثلما تتعامل مع المسلم، لماذا هذه الغلظة؟ لماذا تشوهون الإسلام؟

افعل مع اليهودي مثلما تفعل مع المصلي، وافعل مع العلماني مثلما تفعل مع الموحد، كل الناس سواسية، ولا تجرح مشاعر الناس، حتى إن بعضهم قد جعل في كتاب تربوي له، أو أظنه في علم النفس قاعدة: إن المسلم الحق هو الذي لا يؤذي الناس، ونقول: هذه ليست منضبطة، فإن بعض الكفار لا يؤذي الناس، وليس الضابط والخلاف بيننا مسألة سلوك أو أخلاقيات؛ بل إيمان، فكان صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على الإيمان: الإيمان بالله، والإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالإسلام.

في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام يقول في دعاء الليل: {اللهم لك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق -هذه المبادئ- ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق ومحمد صلى الله عليه وسلم حق} ومحمد صلى الله عليه وسلم دعاؤه وكلامه وخطبه إيمان، حتى إن ابن القيم يذكرها في زاد المعاد يقول: كانت خطبه تربي الإيمان في القلوب، لأن بعض الناس يخبر الناس بمسلَّمات؛ يأتي يوم الجمعة على المنبر فيقول: إنكم سوف تموتون يا أيها الناس! وتخرب دياركم، وتهدم أشجاركم، وتجف آباركم، وتنقطع أمطاركم، وهذا تحصيل حاصل، فهو معلوم حتى الكافر يعرف هذا.

الكافر يعرف أنه سوف يموت، وتخرب دياره، وتجف آباره، وتموت أبقاره، لكن ليس هذا هو الضابط، إنما الضابط لقاء الله عز وجل الذي يفرق بالإيمان به بين الكافر والمؤمن، فكان صلى الله عليه وسلم ينشئ أصحابه على مبدأ الإيمان وهو منهج القرآن، فعلى المسلم، أو الداعية، أو طالب العلم، أو الأب في البيت إذا أراد أن يربي أن يبدأ بالإيمانيات، فيرسخ العقيدة.

وإذا قلنا: ترسيخ العقيدة.

فقد يقول بعض الناس: عقيدة عقيدة دائماً! لقد فهمنا العقيدة!!!

فالعقيدة معناها: استواء الله عز وجل على العرش، أو العقيدة معناها: لا إله إلا الله!

فنقول: إن العقيدة بمعناها الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم تصاحب الإنسان منذ أن يسقط رأسه على الأرض إلى أن يموت، ولكنها تتفرع، ويبنى عليها غيرها، فالأدبيات والسلوكيات تبنى على العقيدة، ولا نريد بالعقيدة الأمور المجملة التي ذكرها أهل العلم، بل الأمور العملية المفصلة التي أتى بها صلى الله عليه وسلم.

كان صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى التفكر في آيات الله، كان إذا صعد مكاناً عالياً كبَّر، وإذا نزل سبَّح، والله يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:١٩٠].

إن الأستاذ المربي يجعل من التاريخ مادة إيمان وعقيدة، كيف؟

هم يدرسون الآن ترجمة زنوبيا الزباء ملكة تدمر أكثر من ترجمة أبي بكر الصديق، ولدت وكان عندها جيش وفعلت وصنعت.

والملك الأبرش (وجدع قصير أنفه).

وعنترة بن شداد أين كان يسكن.

وداحس والغبراء، وهذه الطلاسم، ولكن الأستاذ المؤمن المؤرخ حين يقف عند السبورة أمام الطلاب فإنه يحول درس التاريخ إلى عقيدة، فيتحدث عن آيات الله في الكون، ويأتي بقوله تعالى عن التاريخ: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم:٤٥].

إن المؤرخ المسلم حين يقف عند السبورة يميز بين ترجمة أبي بكر الصديق وترجمة زنوبيا الزباء، فيقول: زنوبيا ملكة كافرة، وعنترة رجل شجاع وثني فلابد أن يذكر التمايز، ويدخل إلى أبي بكر فيتحدث عن أبي بكر ويتحدث عن معركة عين جالوت، ولكن بإسلام، يتحدث عن معركة بدر ولكن بإيمان.

يا أيها الإخوة! أحد المفكرين الذين لامهم الناس ونقدوهم في الساحة، وهو يستحق النقد في بعض الجوانب، وقد أخطأ كثيراً في جوانب كثيرة، لكنه في مسألة أصاب فيها، ولا يعني أنه إذا أخطأ كثيراً ألا يصيب ولو مرة، يقول في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم: أنا لا أكتب السيرة كرجل متجرد من العاطفة، إنني جندي من جنوده عليه الصلاة والسلام، بيني وبينه وشيجة كما بين الجندي والقائد، أنا لا أتجرد من عاطفة الإيمان.

وصدق في هذا، وكلامه صحيح، بل هو من أصح الكلام.

تجد بعضهم الآن يقولون وهم يكتبون في تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم: نحن نتجرد عن عاطفته، وعن حبه في أول الطريق لنكتب ببراءة، ونكتب بعدم تدخل، ولنقول نحن حياديون.

حيادي! ويلك من الله! حيادي عن محمد عليه الصلاة والسلام كأنك متهم أمام العالم باتباعه! أو ربما يقيدون عليك أنك عميل استخبارات محمد عليه الصلاة والسلام، إنك إن لم تكن موصولاً به بعاطفة حية وبإيمان وإلا فإنك أنت المتهم الوحيد، أنت لا تكتب عن نابليون، ولذلك أخطأ العقاد في كتابه عبقرية محمد، وقد فعل سعيد حوى ذلك غفر الله له.

تدرون بماذا أتوا في العسكرية؟ أتوا يقارنون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم في العسكرية وبين نابليون، جاء بها سعيد حوى في كتابه الرسول صلى الله عليه وسلم وأتى بها العقاد في كتابه عبقرية محمد، فأخطأ الاثنان، أخطأ ذاك يوم قارن بين عبقرية هذا وهذا في العسكرية، وأخطأ هذا يوم قلده وتوسع في ضرب الأمثلة.

من هو نابليون؟ نابليون يستمد تعاليمه من المحيط الأطلسي من البحر ومن الطين، ومحمد صلى الله عليه وسلم يأخذ تعاليمه من فوق سبع سماوات.

{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:١ - ٦] كيف تقارن بين هذا وهذا؟ نابليون خرج لسحق العالم ولقتله مثل: هتلر النازي، ومحمد صلى الله عليه وسلم جاء لإحياء العالم، جاء بتوحيد الله وبرد الفطرة السليمة إلى ربها بعد أن انتكست.

فمسألة الإيمان أمرها عجيب، أنا ذكرت وأكرر هذا: أستاذ داعية مشهور وله مذكرة في الساحة غفر الله له، دخل فصلاً من الفصول فسأل الطلاب: ما هي المادة؟ قالوا: رسم -يعني مادة فنية- وأكثر ما يرسمون البط والماعز، والدجاج والحمام، وهل يستطيع الطالب أن يميز بين الدجاجة والبطة في الرسم؟ فأتى هو برسم آخر فرسم زهرة، ثم ألقى محاضرة في العقيدة على الزهرة، من أنبت الزهرة؟ ومن جملها؟ من باين بين ألوانها هذه حمراء، وتلك صفراء، وهذه خضراء، من كل زوج بهيج! فأبكى الطلاب وأدخل الإيمان إلى الطلاب.

أستاذ الجغرافيا حينما يحمل التربية الحقة يحول الجغرافيا إلى مادة إيمان، نحن لا يهمنا معرفة عواصم الدول، ولا منتجاتها، فهي ثقافة عامة يعرفها الكافر مثلما يعرفها المسلم، ولا المحيطات، ولا التضاريس، ولا المناخ، ولا أن الرياح ترتفع في المرتفعات، وتنخفض في المنخفضات، هذا أصغر مما يهمنا.

يهمنا: من سوَّى الكون؟ ومن أرسى الجبال؟ ومن أجرى الريح؟ وقواعد عمل الجغرافيا في القرآن:

{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:١٧ - ٢٠] ولذلك أجاد العلامة الشيخ/ عبد المجيد الزنداني -رفع الله منزلته- يوم استنبط من هذه القضايا الكبرى حياةً وإيماناً للإنسان، عندما يأتي بهذه القضايا الكبرى، فيطرقها ويربطها بالقرآن، فإذا الإيمان، وإذا القرآن، وإذا الجمال في الطبيعة التي جملها الله عز وجل كلها تقود الإنسان إلى الواحد الأحد.

مجرى النهر، الماء، الريح، إنها لآية من آيات الله، لكن أن يبقى الإنسان يحفظ كأنه آلة، كأنه كمبيوتر، ويعرض على الطلاب تضاريس الدول ومناخاتها، ومنجاتها وأشجارها، وصادراتها، ووارداتها دون أن يربطهم بالإيمان، لقد أخطأ كثيراً، وما الفرق الآن بين أستاذ مثلاً: فرنسي، أو ياباني، أو صيني وبين أستاذ مسلم وكلهم يتحدث عن الجغرافيا بنفس الطريقة والأسلوب؟!.

إن ذاك المسلم يختلف عن الجميع بأنه مؤمن.

<<  <  ج:
ص:  >  >>