للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[تأييد موسى بأخيه هارون]

اسمع إلى التسديد من الله، واسمع إلى الكلام العجيب {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:٢٥] كأن الخبر وقع عليه، فكاد أن يضيق بالخبر، فقال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:٢٥] وإذا شرح الله لك صدرك، فلن تخاف من شيء {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:١٢٥].

وإذا شرح الله صدرك، فاعلم أن لذائذ الدنيا لا تساوي -والله- مع شرح الصدر شيئاً، وإذا ضاق صدرك، فاعلم أن نعم الدنيا لا تساوي شيئاً.

وشرح الصدر يأتي بأمور أعظمها التوحيد، ثم العبادة، وكثرة الذكر، والالتجاء إلى الله عز وجل، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:١٢٤ - ١٢٦].

من أعرض عن ذكر الله فله معيشة ضنك، مع أنه قد يسكن في القصور، ويركب السيارات الفاخرة، ويلبس أنعم لباس ويأكل أطيب طعام، لكن اللعنة معقودة على وجهه، لماذا؟ لأنه أعرض عن منهج الله، وأعرض عن القرآن والمساجد، وأعرض عن عبادة الله والذكر، فله معيشة ضنك {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:١٢٤] لا يعرف شيئاً، يدهده كالصخرة حتى يلقى في النار؛ لأنه كان في الدنيا أعمى، يسمع الأذان ولا يجيب، يرى القرآن ولا يقرأ، يرى طريق الهداية وطريق الشر، فيسلك طريق الشر، سبحان الله! أي قلب هذا؟!

{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:٢٥] ولذلك يمتن سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن فيقول: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:١] أما فسحنا لك في قلبك؟ أما وسعنا لك صدرك؟ أما طردنا الهموم والغموم من جوانحك؟ فكان حليماً بالقرآن ومنشرح الصدر بالإيمان.

قال موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:٢٥ - ٢٦] كأنه يقول: يا رب إن المسئولية خطيرة، والرسالة عظيمة، يسر لي أمري، ولا ييسر الأمر إلا الله {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه:٢٧] وقد كان في لسانه عقدة يأكل الكلام، والسبب -كما قال أهل السير والتاريخ- أنه كان في صباه، وهو في بيت فرعون يوم استنقذته بإذن الله آسية امرأة فرعون عليها السلام، ولا عليه.

سلام الله يا مطر عليها وليس عليك يا مطر السلام

فاستنقذته فعاش في حجر فرعون، وانظر للهادي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، تجد الابن في بعض البيوت كل المعصية في بيته الإجرام والفسق والعصيان، وينشأ هادياً مهدياً عابداً من العباد؛ لأنها هداية الله، وتجد الابن في بعض البيوت وأهله يقربون له أسباب الهداية، ويسألون الله له التوفيق، وينشأ شقياً جباراً عاصياً مارداً على الله، ولذلك فإن الرجل الذي سوف يشير الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إليه في سورة طه وهو السامري فإن اسمه موسى تربى في حجر جبريل، وموسى النبي عليه السلام تربى في حجر فرعون، فأسلم هذا وكفر ذاك، قال الشاعر:

فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مؤمن

فلما نشأ وأصبح صبياً، أخذ كفه مرةً من المرات ولطم فرعون على وجهه، فغضب فرعون، وقال: لأقتلنه، لأنه كان يذبح أبناء بني إسرائيل، فقالت العاقلة الرشيدة امرأة فرعون المؤمنة: هذا لا يعلم شيئاً، وأحضرت له جمرة وتمرة، وقالت لفرعون: إن أخذ التمرة فاقتله؛ لأنه يعرف، وإن أخذ الجمرة، فهو لا يعرف رشده، فلماذا تقتله؟ قال: حكمت فأنصفت.

فأراد موسى أن يأخذ التمرة، فصرف الله يده على الجمرة، فأخذها فوضعها على طرف لسانه، فأحرقت لسانه.

لذا لما قال له الله عز وجل: اذهب إلى فرعون؛ تذكر أنه لا يستطيع أن يتكلم؛ لأنه يريد أن يلقي خطبة على فرعون ومحاضرة يبين له فيها التوحيد، لكن بأي لسان {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه:٢٥ - ٢٧] قال الحسن البصري: [[رحم الله موسى! ما سأل الله إلا أن يحل عقدة واحدة بقدر الحاجة]] وما قال: اجعلني أفصح أهل مصر بأن يكون خطيباً مصقعاً، أو محاضراً مطبقاً، بل قال: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:٢٧ - ٢٨].

أي: علم أن يفقهوا بعض الكلام، ومع ذلك قال في سورة القصص: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} [القصص:٣٤] يقول: اجعل معي أخي هارون يتكلم؛ لأن هارون فصيح وأنا لست فصيحاً، وكان هارون أكبر من موسى، قال أهل العلم: ما سمعنا بشفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى لهارون، فإنه شفع له عند الله حتى أصبح نبياً من الأنبياء، وهي أعظم شفاعة، وانظر إلى حكمة الله، رأى أن هذا الصغير ربما يتحمل أعباء الرسالة أعظم من هذا، فجعله نبياً رسولاً، ثم شفع هذا الصغير في أخيه الكبير فكان معه نبياً.

ولذلك لما وصل إلى بساط فرعون وعلى بلاطه، أخذ فرعون يضحك مع وزرائه وحاشيته، ويقول: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:٥٢].

يقول: أنا يا أهل مصر أحسن وأفضل أم هذا الذي يأكل الكلام ولا يفصح؟! سبحان الله! فهل المسألة بالفصاحة؟ لا، المسألة بالتقوى أهي بكثرة الطنطنة والدندنة في الكلام؟ لا، بل هي بالتقوى أهي بالذكاء الخارق والعبقرية؟ لا.

بل بالتقوى.

ثم قال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي) [طه:٢٩ - ٣٠] ثم عاد إلى الله عز وجل فقال: يا رب إن المسألة صعبة وضخمة {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:٢٩ - ٣٢] قوِّ به جناحي، واجعله رفيقاً لي عل فرعون أن يخافنا، أو يرهبنا قليلاً؛ لأن الاثنين أرهب من الواحد {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:٣١ - ٣٢].

لماذا؟ قال: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً} [طه:٣٣] أي: حتى يذكِّرني وأذكِّره التسبيح في الطريق، يذكرني طاعتك، وأذكره طاعتك، ولذلك الاثنان يسبحان أكثر من الواحد، وحبذا الصديق الصادق الذي يعينك على طاعة الله {وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} [طه:٣٤] والذكر زاد الدعاة، {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً} [طه:٣٥].

قال الله عز وجل: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:٣٦] وكل ما مضى من السؤالات كأنها سؤال واحد أمام كرم الله عز وجل وعطائه وسعته ورحمته.

<<  <  ج:
ص:  >  >>