[ضيق الحال عند الصحابة]
المسألة الثانية عشرة: ما كان عليه بعض الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من ضيق الحال.
فقد كان الصحابة في أول الإسلام في ضيق حالٍ حتى آخر خلافة عمر رضي الله عنه، فكانوا لا يشبعون في غالب الأوقات من التمر، حتى وقف عمر رضي الله عنه في آخر خلافته فجلس على المنبر وبكى ثم رفع رأسه وقال: أيها الناس! أما يُغدى على أحدكم بجفنة مكللة بالثريد، ويراح بجفنة مكللة بالثريد؟ قالوا: بلى.
قال: والله الذي لا إله إلا هو لقد كنا نتلوى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجد أحدنا ما يملأ بطنه من رديء التمر.
وكان يمتنع عن الملاذ رضي الله عنه؛ لأنه عاش في شظف عيش.
فلما أطل عصر عثمان أقبلت الدنيا والموائد والمطاعم والمشارب، وتوسع الناس، وبقي أهل العهد على عهدهم، ومنهم من توسع وأراد بتوسعه وجه الله عز وجل، ولذلك ذكروا في سيرة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه: أنه ذهب يعتمر، فلما أصبح في عسفان قدم له إفطاره، وكان إفطاره طير مشوي وشيء من اللحم، فلما قدموه قال: يا سبحان الله! يقتل حمزة ولا يلقى ما يكفن به، ويقتل مصعب ولا يلقى ما يكفن به، وأفطر على هذا! ثم بكى حتى رفع إفطاره ولم يفطر.
ويقول سعد رضي الله عنه وأرضاه، وهذا في صحيح البخاري في كتاب الرقاق، باب (كيف كان عيش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم عن الدنيا) قال سعد: [[والله الذي لا إله إلا هو لقد مر بي زمن يوم أسلمت ما كان لي من طعام إلا ورق الشجر، وإن أحدنا ليأكل ثم يضع كما تضع الشاة ماله خلط، ثم أصبح بنو أسد يعزرونني على الإسلام، خبت إذن وخسرت]].
يقول: أسلمت وأكلت أوراق الشجر، وأنا صابر محتسب على الإسلام، وأدخلت الناس من هذه القبيلة في الإسلام بهذا السيف، ثم يأتي أهل هذه القبيلة الذين أدخلتهم في الإسلام ويقولون: أني لا أحسن أصلي.
والسبب في ذلك: أن أهل الكوفة -بني أسد- ذهبوا إلى عمر فقالوا: نشكو إليك سعداً.
كلما ولى عليهم عمر والياً شكوه، ما يبقى فيهم إلاّ أسبوعاً ويقدمون فيه شكوى.
فقال عمر: ماذا حدث؟ قالوا: ما يحسن يصلي.
قال عمر: سبحان الله! أبو إسحاق ما يحسن يصلي! قالوا: نعم.
لا يحسن يصلي.
فـ عمر رضي الله عنه ما استخدم ظنه، وإنما أراد أن يتبين بالدلائل والحقائق والعلم، فأتى بـ سعد وأجلسهم أمامه وقال: إنهم شكوك في كل شيء حتى في الصلاة، فكيف تصلي؟ قال سعد: يا سبحان الله! والله لقد مر بي زمن ما كان لي من طعام إلا ورق الشجر، والله لقد كنت ربع الإسلام -أي: رابع أربعة في الإسلام- والله لقد أدخلتهم -بني أسد- في الإسلام بسيفي هذا، ثم يعيرونني أني لا أحسن أصلي، أما أنا فأركد في الأوليين -أي: في الركعة الأولى والثانية- وأحذف في الأخريين.
فقال عمر: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق! ثم قام أهل العراق فقالوا: أرسل معنا من تسأله عنا وعن سعد -والقصة لا بأس بإيرادها- فأرسل معهم محمد بن مسلمة، فلما وصل ما ترك مسجداً من مساجدهم إلا ويسألهم عن سعد، فيثنون عليه خيراً ويدعون له، حتى وصل إلى رجل معثر شقي في مسجد من مساجد بني عبس في طرف الكوفة فسألوه، فقال: إن سألتمونا فوالله! إن سعداً لا يمشي مع السرية، ولا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية.
فرفع سعد يديه واستقبل القبلة وقال: اللهم إن كان قام رياءً وسمعةً كاذباً علي فأطل عمره وعرضه للفتن.
وفي روايةٍ عند عبد الملك -أحد الرواة- وأكثر ماله وولده وعرضه للفتن.
فطال عمر هذا الرجل حتى سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وأخذ يتعرض للجواري في سكك الكوفة يغمزهن بيديه، ويقول: شيخ مفتون أصابتني دعوة سعد.
لأن الله علم أن سعداً صادق وأنه يريده، وأن دعوته مستجابة، فكان سعد على هذه الحالة، وغيره من الصحابة كثير يتحدثون عن هذا.
يقول أبو موسى رضي الله عنه: [[والله لقد رافقت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع فكنت ألف القماش على قدمي حتى تساقطت أظفاري في الأرض]] ثم ترك هذا الحديث في آخر عمره فما أصبح يحدث به، وخاف أن يكشف للناس عملاً يريد أن يكون بينه وبين الله عز وجل.
إذن فالصحابة إلى آخر عهد عمر رضي الله عنه كان غالب وقتهم الشظف في العيش والخشونة والفقر، ولكن يغنيهم الله عز وجل من خزائنه لما أعد لهم من ثواب وأجر عميم عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.