للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الحكمة من كونه بشراً يتيماً أمياً

أيها الناس: فيما مر دروس، نستفيدها من سيرته عليه الصلاة والسلام قبل النبوة، والدروس هذه هي أن الرسول عليه الصلاة والسلام رجل يتيم أمي، ثلاث قضايا: بشر، وأمي، ويتيم.

فأما كونه بشراً، فهي حكمة من الله، قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:٩] أي: لو كان ملكاً من الملائكة، ما استطعنا اتباعه، وما استطعنا أن ننهج منهجه، وما كان في مقدورنا أن نحتذي سيرته، لكن جعله الله بشراً، يعيش آلامنا، يجوع كما نجوع، ويظمأ كما نظمأ، وينام كما ننام، ويتزوج النساء، ويرضى ويغضب، ويضحك ويبكي، فهو بشر مثلنا فنتبعه.

وأما الكفار فاعترضوا على أنه بشر، قال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان:٧ - ٨].

يقولون: كيف يكون هذا رسولاً وهو يأكل الطعام كما نأكل، ويجلس معنا كما نجلس، ويبيع ويشتري في الأسواق؟! هذا لا يصح، فأخبر الله أن الحكمة كل الحكمة في جعله بشراً نستطيع أن نتبعه، فبعض الصحابة أرادوا أن يصلوا في العبادة حداً لا يبيحه لهم الشارع، يقول أحدهم: أنا لا أتزوج النساء، والثاني يقول: وأنا لا آكل اللحم، ويقول الثالث: وأنا أصوم ولا أفطر، فأُخْبِرَ عليه الصلاة والسلام فقال: {أما أنا فأتزوج النساء، وآكل اللحم، وأصلي وأنام، وأصوم وأفطر، فمن رغب عن سنتي فليس مني} قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:٣٨] إذاً: فالحكمة هي: في كونه بشراً لا ملكاً.

المسألة الثانية: يتيم، ليس عنده عوامل أرضية، تجعله يسود على العرب، ولذلك قال هرقل: لو كان أبوه ملكاً لقلت: رجل يطلب ملك آبائه.

لقد اختاره وهو يتيم، ليس وجيهاً في قومه، ولا عنده منصب، ولم يكن ملكاً ولا صاحب ثروة، بل يتيم يخرج من مكة، لا يملك كسرة الخبز وقطعة الثوب، ثم يسيطر على ثلاثة أرباع العالم، فالحكمة هي في كونه يتيماً.

والأمر الثالث: أنه أمي، يقول: مايكل هارف، وقالها جولدزيهر المجرم يقول: أنا لا أعجب من محمد كونه نبياً، فإن الله قد بعث أنبياء كثر، لكن العجب أن يبعث بعد الأربعين أمياً لا يقرأ ولا يكتب، فيكون أخطب خطيب وأفصح فصيح.

فيبعث عليه الصلاة والسلام لا يقرأ ولا يكتب، كان يذهب إلى خباب بن الأرت وخباب بن الأرت، كان حداداً يصنع السيوف -يصقلها على كير- فيعلمه عليه الصلاة والسلام الرسالة، فيقول كفار قريش: انظروا إلى محمد يذهب إلى خباب الأعجمي يتعلم منه القرآن! سبحان الله، العجم يعلمون القرآن! فيكون الرد صارخاً قوياً: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:١٠٣].

ذهبت مشرقة وسرت مغرباً شتان يبن مشرق ومغرب

خباب أعجمي لا يستطيع نطق الحروف العربية إلا بكلفة، ومحمد عربي، وقريش تقول: يتعلم محمد من خباب القرآن، يذهب إليه ليدعوه في الصباح وبعد الغروب، في هدأة الليل، وبعد الفجر، فقال: كفار قريش: يتعلم في الصباح والمساء، ويأتي يخبرنا بهذه الأساطير من خرافات الأولين قال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان:٥ - ٦]

لا يقرأ ولا يكتب، ولكن ما خرم من القرآن حرفاً واحداً، نزل القرآن مباشرةً على قلبه، وكذلك كان يرتجل الخطبة، ولا يلحن في كلمة، ولا يتلعثم في حرف، وهذه الكتب والعلماء والدعاة كلها ميراثه عليه الصلاة والسلام، كان يصلي بالناس، فيقول: {استووا ولا تختلفوا؛ فإني أراكم من وراء ظهري}.

كان يكتشف الصفوف ويراها من وراء ظهره، ينام الليل كله، فلا ينتقض وضوءه ويقول: {يا عائشة! إنها تنام عيناي ولا ينام قلبي}.

<<  <  ج:
ص:  >  >>