[صور من معايشة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن]
قام عليه الصلاة والسلام بعد أن نام، قال ابن عباس: {فرأيته في الظلماء} فما كانت هناك سُرُج ولا كهرباء، وكان بيته صلى الله عليه وسلم يلتقي رأسه بطرف الجدار ورجلاه الشريفتان بالطرف الآخر من ضيق بيوته صلى الله عليه وسلم.
كفاك عن كل قصر شاهق عمدٍ بيتٌ من الطين أو كهفٌ من العلَم
تبني الفضائل أبراجاً مشيدة نصب الخيام التي من أروع الخيم
فهو أتى ليبني الأرواح والقلوب عليه الصلاة والسلام، أما الأجسام والدور والقصور فلهن أناس متخصصون خلقهم الله لها، ولذلك يقول معاذ، أحد دعاة الإسلام، لما حضرته الوفاة: [[والله إني لم أكن أحب الحياة لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، ولا لعمارة الدور، ولا لرفع القصور؛ ولكن لمكابدة الليالي، ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر، ولظمأ الهواجر]] {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:٣٣ - ٣٥].
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب النوم من عينيه، وأخذ يتلو: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:١٩٠ - ١٩١].
قرأ الآيات العشر حتى ختم سورة آل عمران، ثم قام عليه الصلاة والسلام.
وعند ابن جرير الطبري وابن مردويه بسند يقبل التحسين قال بلال: {خرجت أؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة الفجر، فوجدته يبكي صلى الله عليه وسلم، فقلت: مالك يا رسول الله! بأبي أنت وأمي؟ قال: يا بلال! قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله! قال: أنزلت عليَّ آياتٌ بينات، ويلٌ لمن قرأها ولم يتدبرها، قلت: وما هي يا رسول الله؟ فأخذ يقرأ وهو يبكي: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:١٩٠ - ١٩١]}.
وربما كان عليه الصلاة والسلام يقوم فيصلي من الليل، وفي بعض الأحيان يقوم ويتوضأ ويخرج إلى المدينة، وينشط إلى بيوت الأنصار والمهاجرين وهم يقرءون القرآن، فيبكي وهو يستمع لهم صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك ما ثبت في الصحيح عن عمر وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم قالوا: {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فسمع أبا موسى الأشعري يقرأ القرآن، فوضع صلى الله عليه وسلم يديه على نافذة المسجد في الليلة الظلماء وهو ينصت لـ أبي موسى} وأبو موسى الأشعري من أهل اليمن، أُوتي صوتاً ما أجمل منه! ولا أحسن منه! ولا آثر منه! يقول مسروق: [[سمعت أبا موسى يقرأ، فوالله ما سمعت صنجاً ولا طنجاً ولا نأياً ولا وتراً أعجب من صوته!]] فأخذ صلى الله عليه وسلم يستمع وينصت -وذاك يصلي ويقرأ وهو لا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستمع له- وأخذ صلى الله عليه وسلم يبكي، فلما سمع نساؤه بكاءه صلى الله عليه وسلم، أتين ووضعن أيديهن معه وبجانبه يستمعن ويبكين، فلما أصبح الصباح لقي الرسول صلى الله عليه وسلم أبا موسى وقال له: {يا أبا موسى! لو رأيتني البارحة وأنا أستمع إلى قراءتك، وقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود، فقال أبو موسى: يا رسول الله! أتستمع لي البارحة؟ قال: إي والله، قال أبو موسى: والذي نفسي بيده يا رسول الله! لو علمت أنك تستمع لي لحبرته لك تحبيراً} أي جوَّدته أكثر مما سمعت، وحسنته أكثر مما وقع في أذنيك ليكون أكثر تأثيراً.
ولذلك تسابق أبو بكر وعمر مرة ثانية إلى أبي موسى يبشرانه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستمع إليه، قال عمر: [[لما صليت الفجر ذهبت إلى بيت أبي موسى لأبشره ببشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت أبو بكر قد سبقني، فقلت: والله لا أسابقه بعد اليوم]] كلما أتى عمر رضي الله عنه يسابق أبا بكر سبقه أبو بكر.
ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
ولذلك كان أبو بكر أسبق الناس، فهو في الجهاد أستاذ الجهاد، وفي العبادة أول الصحابة، وفي الخلافة الرجل المرجى والمرشح رضي الله عنه وأرضاه، لا لشيء إلا لشيء وَقَر في قلبه وهو الخشية، حتى كان يصلي بالناس ويقطع قلبه بالبكاء وهو لا يزال في سورة الفاتحة لما علم من معرفة الله عز وجل.
وقد أسلفت لكم أنه يخرج عليه الصلاة والسلام في المدينة، وفي تفسير أبن أبي حاتم بسند جيد عن امرأة من الأنصار قال: {خرج صلى الله عليه وسلم ذات ليلة يتمشى في شوارع المدينة، فسمع عجوزاً من الأنصار تصلي في الليل، وتقرأ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:١] فوضع رأسه صلى الله عليه وسلم على سائر الباب، وجعل يستمع معها وهي تردد وتقول: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:١] فيقول: نعم أتاني، نعم أتاني، وهو يبكي حتى الصباح صلى الله عليه وسلم}.
هذه بعض الملامح لمعايشته لهذا الكتاب العظيم.