للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حال السلف مع الوقت]

أتى قصاص يقص شارب معروف الكرخي وكان معروف يعتمر، فحلق رأسه، ثم قال للقصاص: خذ من شاربي، فأخذ معروف يسبح الله، قال له القصاص: أنا أقص شفتك، اسكت، قال: أنت تعمل، وأنا أعمل، قالوا: ما رئي إلا متمتماً بذكر الله، وقال بعضهم: أظنه يسبح مئات الألوف في اليوم، ويقولون: كان إذا نام عند أهله سبح سبح، فلا يستطيعون النوم.

ويقال عنه: ربما مرت عليه بعض الليالي يسبح فيها حتى ينام، فإذا اضطجع على فراشه سبح حتى يؤذن الفجر.

وكان سفيان الثوري في بعض الليالي لا ينام

نامت الأعين إلا مقلةً تذرف الدمع وترعى مضجعك

قيل لـ سفيان: لم لم تنم؟ قال: أردت أن أنام فتذكرت يوم يكون عرش الله بارزاً للناس، فما نمت.

وعمر بن عبد العزيز، قيل: أنه مرت به ليلة، فما نام.

وأما عمر بن الخطاب، فقد قيل لـ عاتكة: ماذا كان يفعل عمر؟ قالت: إذا أتى إلى فراشه وضع عنده ماء بارداً، فإذا نعس رش وجهه ثم ذكر الله، فإذا نعس رش وجهه، فإذا انتصف الليل قام يدعو ويبكي حتى الفجر، قالت عاتكة: يا أمير المؤمنين! لم لا تنام؟ قال: إن نمت في النهار، ضاعت رعيتي، وإن نمت في الليل، ضاعت نفسي-سلام عليك ورفع الله منزلتك-.

الجنيد بن محمد أحد الصالحين، أتى في سكرات الموت، فأخذ يقرأ القرآن، فأتى الناس -قرابته وجيرانه- يحدثونه، وهو في مرض الموت، فسكت وما حدثهم، وأخذ يقرأ القرآن، قال له ابنه: يا أبتاه! أفي هذه الساعة تقرأ القرآن؟! قال: ومن أحوج الناس مني بالعمل الصالح، فأخذ يقرأ ويقرأ حتى انتهى.

وابن تيمية لما وصلته الوفاة، قال لمقرئ عنده: اقرأ عليَّ القرآن، فقرأ، فلما بلغ القارئ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:٥٤ - ٥٥] فاضت روح شيخ الإسلام.

عفاء على دنيا رحلت لغيرها فليس بها للصالحين معرج

كدأب علي في المواطن كلها أبي حسن والغصن من حيث يخرج

سلام عليك في الخالدين، وجمعنا بك في الصالحين، وروض الله روحك في الأخيار الطيبين:

{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} * {وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:٢٧ - ٣٠].

وقال الذهبي عن عبد الله بن إدريس العالم الكبير -الله ما أكبره! وما أحسنه! - هذا العالم استدعاه هارون الرشيد ليوليه القضاء، فلما دخل عليه، قال: تولَّ القضاء، قال: لا أتولى، قال: ولم؟ قال: يرسلني أهلي إلى السوق لأقتضي مقاض، فأنسى الغرض الذي أرسلوني إليه، فتوليني أمور المسلمين، قال هارون وقد غضب: سمعت أنك مجنون، قال عبد الله بن إدريس: ما زال أهلي يسمونني مجنوناً إلى اليوم، قال: ليتني ما رأيتك، قال عبد الله بن إدريس لـ هارون: وليتني أنا ما رأيتك، ثم خرج من عنده، فلما حضرته الوفاة، جمع ابنه وبناته، وقال: يا بني! لا تعص الله في هذا البيت، والله لقد ختمت القرآن فيه أربعة آلاف مرة.

ذكرها الذهبي بسند صحيح.

يقول سبحانه: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان:٢٩] قيل لـ ابن عباس: [[كيف تبكي السماوات والأرض؟! قال: المؤمن يبكي عليه مصلاه ومقعده وممشاه إلى المسجد]].

الخطيب البغدادي المحدث الكبير، كان يأخذ كتاباً إلى المسجد، ويقرأ ذاهباً وآيباً، قيل له في ذلك، قال: أحدث الكتاب، ويحدثني.

وقال أحد الصالحين لتلاميذه: " إذا خرجتم من المسجد فتفرقوا لتقرءوا القرآن، وتسبحوا الله، فإنكم إذا اجتمعتم في الطريق، تكلمتم وضاعت أوقاتكم ".

ما أحسن هذا الوقت! وما أثمنه! وما أعظم قدره عند الله!.

قال الذهبي في ترجمة عبد الرحمن بن أبان بن عثمان حفيد لـ عثمان بن عفان، وعبد الرحمن كان غنياً، كان يجمع أهل البيت من العبيد والموالي فيكسوهم، فإذا أكساهم أعتقهم لوجه الله، فيقول له المسلمون: لماذا؟ قال: أستعين بها في غمرات الموت، وأول ليلة في القبر.

فارقت موضع مرقدي يوماً ففارقني السكون

القبر أول ليلة بالله قل لي ما يكون

يقول هذا الأديب الشاعر: بت عند جاري، مرة فما نمت لأنه تغير المكان، فكيف بأول ليلة من ليالي القبر؟!!

يقول أحد الصالحين، وقد دخل على سلطان من السلاطين فرآه مغروراً بالذهب والفضة والخيل المسومة، والأنعام، والحرث، قال له: اسمع مني كلمة، قال: ما هي؟ قال:

والله لو عاش الفتى في عمره ألفاً من الأعوام مالك أمره

لا يعتريه السقم طول حياته كلا ولا ترد الهموم بصدره

ما كان ذلك كله في أن يفي فيها بأول ليلة في قبره

أول ليلة هي ليلة عجيبة، ومن أراد أن يتهيأ بضيافة في أول ليلة فليفعل، وليقض على الفراغ، وكان السلف يحرصون على أنفاسهم في سبيل الله، وكانوا يستغلونها.

قالوا عن وكيع بن الجراح: كان يصلي مائة ركعة بخشوع وخضوع من غير الفرائض.

وقالوا عن أحمد: صلى ثلاثمائة ركعة.

والضابط في ذاك السنة، وليس العمل بالكثير، ولكن العمل المخلص الصادق الخاشع لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

قال ابن الجوزي في كلام ما معناه في صيد الخاطر: لمحت فإذا الناس يضيعون الأوقات؛ فهذا يجلس فارغاً في السوق، وهذا يتناول المشايخ على وجه الخدمة، أي: يزورهم، وأصبحت الآن الزيارات كثيرة خاصة بين الشباب، يزوره في الله، ويسهره إلى الساعة (اثنتين) في الله، ويضربه في الله، ويغتابه في الله، أصبح كل شيء في الله، وهذه مضيعة للوقت، إذا لم تحدد الزيارة بجدول لعمل، وإلا فالضياع الحتم الذي ما بعده ضياع.

المجد ابن تيمية له شيء عجيب في حفظ الوقت، كان يقول لابنه إذا دخل الخلاء، أو ذهب يغتسل في دورة المياه: اقرأ عليَّ، وارفع صوتك، لعلي أستفيد وأنا هناك، فيقرأ ويرفع صوته.

أنفاسهم محسوبة، لأن هذا العمر لا يتكرر.

<<  <  ج:
ص:  >  >>