[النبي صلى الله عليه وسلم مع الأنصار]
فخرج عليه الصلاة والسلام إلى الناس، وإذا برجل من الأنصار أمام الخيمة, فقال: ما وراءك؟ قال: يا رسول الله الأنصار اجتمعوا وتقاولوا كلاماً وقالوا: غفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشاً وصناديد نجد ويدعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم.
فقال عليه الصلاة والسلام: كيف أقوال ساداتكم وفقهائكم؟
قال: ما قالوا فيك شيئاً يا رسول الله.
هذا قول سفهائنا, وقيل: شبابنا وفتياننا.
فقال عليه الصلاة والسلام: اذهب إلى سعد بن عبادة بن دليم الخزرجي (الإمام الكبير الشهيد الذي قال عنه الذهبي: الجواد الفارة) يجمع لي الأنصار.
فذهب إليه وأخبر سعد بن عبادة وجمع الأنصار في حظيرة, ثم أتى صلى الله عليه وسلم ودلف عليهم وعليه بردة, فخطبهم تلك الخطبة التي مرت, ولما انتهى صلى الله عليه وسلم وأقنع الأنصار أن الدنيا زائلة: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:٥٨] وقال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:٣٣ - ٣٥].
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في حنين: {يا أيها الناس -وهم يطاردونه يطلبون الغنائم حتى ألجئوه إلى شجرة فنشب رداؤه في الشجرة وقال: فكوا علي ردائي- والله لو كان لي كجبال تهامة إبلاً وبقراً وغنماً لأنفقتها فيكم, ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذابًا، ثم قال: والله إني لأعطي أناساً منكم لما جعل الله في قلوبهم من الطمع والهلع، وأدع قوماً منكم لما جعل الله في قلوبهم من الإيمان والسكينة منهم عمرو بن تغلب
قال عمرو بن تغلب -وهو يروي هذا الحديث وكان في حياته كلما رواه بكى-: كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما فيها}.
ولما صلّى صلى الله عليه وسلم صلاة العصر وقد قسم الغنائم وأخذ أبو سفيان مائة والأقرع مائة وعيينة مائة وأخذوا يستاقونها, وإذا مالك بن عوف النصري ومعه وفد قوامه ثمانية أنفار على خيولهم الشقر, وهم يخوضون في الصحراء حتى وصلوا إليه بعد الصلاة، فوقفوا على رأسه فأنزلهم صلى الله عليه وسلم، فقام مالك بن عوف النصري سيد هوازن وكان شاعراً لبيباً خطيباً وفصيحاً، فقال: [[يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله, وأنك رسول الله, ائذن لي أن أقول أبياتاً قال:
ما إن رأيت وما سمعت بمثله في الناس كلهم كمثل محمد
أعطى وأجزل للنوال إذا اجتدى ومتى تشأ يخبرك عما في غدِ
وإذا الكتيبة عردت أنيابها بالسمهري وضرب كل مهندِ
فكأنه ليث على أشباله وسط الهباءة خادر في مرصد
]]
فاستحسنها صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا تريد يا مالك؟ لأن قصيدته هذه مقدمة يريد منها شيئاً, يريد السبي والإبل والبقر والغنم أن تعود.
ولذلك يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[نعم الرجل يقدم أبياتاً بين يدي حاجته]] لأن هذه الأبيات فيتامين (واو) تسهل للشخص أمره, فمن تعسر عليه أمر من بعض الناس فعليه أن يدعو, وإذا لم يصادف شيئاً فعليه أن يسجل له أربعة أبيات, فسوف يلبي دعاءه إن شاء الله.
فـ مالك بن عوف يعرف العرب أن سوف يستجيبون, فأتى بأربعة أبيات, فعرف صلى الله عليه وسلم أنه يريد شيئاً "إياك أعني واسمعي يا جارة" قال: يا مالك! إن أحب القول إلي أصدقه فماذا تريد؟
قال: يا رسول الله! أريد السبي وأريد المال، يقول: أريد النساء والأطفال وأريد المال, قال عليه الصلاة والسلام: اختر بين اثنتين إما السبي وإما المال.
كأنه يقول له: بعدما هزمناك وألحقنا بكم الدائرة نرد لك السبي والمال سالمة مسلمة، في شرع من هذا؟!
فسكت وقال: ما أعدل بالنساء شيئاً -يقول: كيف تخيرني بين الإبل وبين النساء؟ علي بالأطفال والنساء، فقال عليه الصلاة والسلام: ردوا عليه نساءه وأطفاله، فقال بعض العرب: والله لا نرد عليه نساءه وأطفاله -لأن بعض النساء أصبحوا سبايا- فقال صلى الله عليه وسلم: {لا ندري من طيب منكم ممن لم يطيب ولكن ارفعوا ذلك إلى عرفائكم} فبعضهم وافق وبعضهم أبى.
فقام عليه الصلاة والسلام خطيباً فيهم وذكرهم بالله وبالسماحة وبالعفو وقال: ردوا عليهم السبي والذي لا يرده منكم إلا بشيء فأنا أعوضه في أول ما يغنمنا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, فردوا له السبي من النساء ومن الأطفال.
فقاموا يأخذونها.
وأما الإبل والبقر فراحت في رحمة الله, ورجع مالك بن عوف النصري مسلماً مؤمناً ونزل عليه الصلاة والسلام معتمراً.
وبقيت أحداث من هذه القصة لأن البخاري روى أول الحديث ثم هالته قصة الحديث, فما استطاع أن يكمل الحديث, لأنه يريد الموعظة والعبرة فسكت وقال: الحديث.