للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الأول: طلب الشهادة]

أول عامل من عوامل النصر: طلب الشهادة، وتسليم النفس لمن خلقها، وهي وديعة عندك تتحرى لحظة الصفر لتقدمها لمن أودعها، والله سبحانه وتعالى يقول للنفس: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:٢٨].

ولا يرجع الشيء إلا بلبيك، فبدأت من الله ولا تعود إلا إلى الله، والله يقول في صك المعاهدة الذي وقع عليه أهل بدر وأحد، وأهل الأحزاب، والقادسية واليرموك: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:١١١].

وفي صحيح البخاري أن رسول الهدى عليه الصلاة والسلام يقول وقد شرفه الله بالرسالة أعظم من الشهادة، يقول: {والذي نفسي بيده، لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل} ولذلك قادهم وفتح المستعمرات والقلاع، وخطب أصحابه على منابر الأندلس، وصلوا إلى السند، وذهبوا إلى بخارى، محمد عليه الصلاة والسلام هو واجهة الأمة.

هذا الرجل العظيم بأبي هو وأمي، يأتي في معركة بدر فيقود المعركة بنفسه، ويحضر أحداً فيتدرع بدرعيه، ويقاتل، ويقول الله سبحانه وتعالى له ليكون قدوة للأمة في الشجاعة والمحاربة: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:٨٤] يفر بعض أصحابه وجيشه في غزوة حنين وهو في خط النار -في الخط الأول- فلا يفر، بل يستل السيف وينزل من على البغلة، ويقول:

أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب.

فحياه أحد شعراء العروبة ولو أنه قومي، لكن هزته شجاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال:

أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة أدبت في هول الردى أبطالها

وإذا وعدت وفيت فيما قلته لا من يكذب قولها أفعالها

كان يضرب ألف مقاتل مع مالك بن عوف النصري من هوازن، أخذ التراب وقال: {شاهت الوجوه} فما بقيت عين إلا دخلها التراب، وصمد للمعركة حتى انتصر انتصاراً باهراً.

يقول علي بن أبي طالب وهو من أشجع الناس، لكن شجاعته تلاشت في شجاعة الشيخ الكبير والأستاذ الجليل، يقول: [[كنا إذا اشتد بنا الخطر وحمي الوطيس، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أقربنا من القوم والحرب]] ولذلك تربت الأمة على الشجاعة، ودلفت كتائبه إلى نهر دجلة والفرات والنيل تبايع الله وتفتح الدنيا بلا إله إلا الله، وأصبح الصحابي الواحد منهم يكبر فينصدع الإيوان، وينهدم القصر، وتنفتح القلعة.

تعال يا من حاله في وبال وروحه مغروسة في عقال

يا راقداً لم يستفق عندما أذن في صبح الليالي بلال

روض النبي المصطفى وارفٌ أزهاره فاحت بريا الجمال

معاذ بن عفراء في الخامسة عشرة من عمره، وأهل الخامسة عشرة اليوم يشترون اللاصق ويضعونه على النوافذ، ويغمى عليهم قبل أن يأتي الكيماوي؛ لأن الجبان يموت باليوم ألف مرة، والشجاع لا يموت إلا مرة واحدة.

معاذ بن عفراء يدخل المعركة وهو في الخامسة عشرة يقول: أين أبو جهل؟ قالوا: ذاك، فلما بدأ الهجوم، وأعلنت حالة الطوارئ، وبدأ السيف يقطر من الدماء، انطلق هو وأخوه على أبي جهل فجعلوه شذر مذر، ويعود بسيفه لا طائشاً ولا رعديداً ولا جباناً، ويقول: يا رسول الله! أنا قتلته، ويقول أخوه: أنا قتلته، فيتبسم القائد العظيم، ويحيى الجيل الخالد، جيل القرآن، ويقول: {كلاكما قتله}.

متى كانت هذه الأمة أمة ساقطة تخاف الموت، أمة ترى في المنام الموت وهي تود أنها بالأعراب، أو تجد مغارة أو مدخلاً تولي عن نفوس المستعمر، أو عن اليهودي، أو عن الماركسي؟ متى كانت كذلك إلا يوم أبطلت طلب الشهادة.

خرج ابن رواحة من مسجده عليه الصلاة والسلام يقاتل في مؤتة، فقال الصحابة: يعود إلينا ابن رواحة بالسلامة، قال: لا.

لا يريد السلامة، ما خلق إلا ليقتل، وما رفع الرأس فوق الرقبة إلا لينسف، لكن في سبيل الله، أبناء شامير وأبناء ديكسمان، يقتلون في سيناء تحت الدبابات المصرية من أجل راية النمرود.

البلاشفة الحمر يقتلون في أفغانستان من أجل راية لينين واستالين.

وأنتم أحفاد صلاح الدين! وطارق بن زياد، ومحمود بن سبكتين! فيقول ابن رواحة:

لكنني أسأل الرحمن مغفرة وطعنة ذات فرع تقذف الزبدا

حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غاز وقد رشدا

فيقتل في المعركة ويمر الصحابة ويسلمون على قبره ويبكون ويقولون: يا أرشد الله من غاز وقد رشدا، هذه هي الحياة.

علي بن أبي طالب يأتي في صفين، فيتبسم لما رأى قرينه يبارزه، فوضع الدرع من على جنبه، يعني من الشجاعة، يقول: أبارزك وأنت عندك درع وأنا بلا درع، ثم يقول:

أي يومي من الموت أفر يوم لا يقدر أم يوم قدر

يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر

أما يقتل في اليوم الواحد العشرات بحوادث السيارات؟ أما سمعنا أن بعض الناس أكل عصيداً حاراً فتفجر في بطنه، أو نشب عظم في حلقه، فمات شهيداً على الفراش، أو جلس في المسرح وهو ينشد أغنية ليحيي بها الأمة الهامدة! أو يقدم مسلسلاً فزلق من على المسرح فوقع على أم رأسه فمات؟!

لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار

سعد بن الربيع يدبج دمه في المعركة ويقول له سعد بن معاذ: ماذا تريد يا سعد بن الربيع؟ وهو من أهل الآخرة، قال: [[أبلغ رسول الهدى عليه الصلاة والسلام مني السلام، وقل جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته، والذي نفسي بيده لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً]] وهذا قبل أن يلقى الجنة، لكن رأى العلامات: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:٣٠].

فطلب الشهادة إذا رسخ في الأمة، وأصبح يعيش معها في أدمغتها، وتفكيرها، ومشاعرها، أصبحت أمة شجاعة، لا تخاف، ولا تجزع ولا تخرج إلى البوادي، لا تتدثر بالألحفة والأغطية، لأنها أمة سلاح.

<<  <  ج:
ص:  >  >>