للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[كثرة الذكر]

ومن أسباب السعادة: كثرة ذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ودعائه ومناجاته واللجوء إليه: وإذا أردت أن تعرف المؤمن من غير المؤمن، أو زيادة الإيمان ونقصه عند الناس، فانظر إلى يديه، وإلى أذكاره، ولسانه، وشعوره، وإلى اتصاله بالحي القيوم، فإذا رأيته دائماً يقول: يا رب! يا حي يا قيوم! يا الله! أسألك التوفيق.

وإذا رأيته دائماً في التسبيح، والاستغفار، والمناجاة، والابتهالات، وإذا رأيت لمحاته ترتفع دائماً إلى الحي القيوم؛ فاعرف أنه مؤمن.

أما إذا رأيت الإنسان مغفلاً، مصمتاً، مغلقاً عليه يذهب سبهللاً، ويأتي سبهللاً، فاعرف أن قلبه مات! صحيح أن قلبه موجود، لكنه كتلة لحم، ميت ليس فيه حراك.

من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرحٍ بميتٍ إيلام

إن ميزان العبادة الذكر، وإن ميزان قوة الإيمان الذكر، فأنا أوصي نفسي وإياكم بكثرة الذكر والابتهال والمناجاة وكثرة الاستغفار، وقد قالوا عنه: يكون كلفة، ثم يكون ألفة أي: يكون كلفة في أول الطريق هي أشهر سوف تتكلف فيها وتحاول أن تجهد نفسك؛ لكنه سوف يكون ألفةً لك؛ لأن من كلف نفسه التسبيح دائماً، سوف تمر عليه أشهر وهو يسبح ولا يشعر بكلفة.

كان أحد العلماء ذكره صاحب روضة الناظرين في ترجمة علماء نجد وعبرها ومن بعدها من السنين يقولون: كان له الذكر كلفة، ثم أصبح ألفة فكان يذكر الله على مر الأنفاس، وكان يقول في المحبة لله عز وجل:

إذا كان حُبَّ الهائمين من الورى بـ ليلى وسلمى يسلب اللب والعقلا

فماذا عسى أن يصنع الهائم الذي سرى قلبه شوقاً إلى العالم الأعلى

قال ابن كثير: سئل أحد العلماء لماذا رفع الله إدريس مكاناً عليا؟ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم:٥٧].

فنقل عن بعض الصحابة كـ ابن عباس وغيره، قالوا: كان إدريس! عليه السلام خياطاً، يخيط الأقمشة، قالوا: ما غرس الإبرة في مكان -يعني ما بين الثقبين- إلا قال: سبحان الله، فقال له الله في ليلة من الليالي عند المساء: يا إدريس، لأرفعنك مكاناً علياً، فبكى وسجد، قال: ولم يا رب! وقد رفعتني في الدنيا رفعةً ما بعدها رفعة- نبي من الأنبياء، ورسول من الرسل- قال: لقد نظرت إلى صحائف الناس كل ليلة فوجدتك دائماً أكثر الناس تسبيحاً واستغفاراً.

كان لا يغرس الإبرة إلا ويقول: سبحان الله، ونحن نتكلم كلاماً من السفه، والسخط، ومن الهذر الذي لا يزن جناح بعوضة في ميزان الحق؛ فلماذا لا نجعل ذلك الكلام في ميزان الحسنات؟!

وفي سنن الترمذي بسندٍ صحيح: {من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلةٌ في الجنة} قال ابن الجوزي: لا إله إلا الله كم يفوتنا من النخلات! إن قلت سبحان الله غرست نخلة.

يقول صلى الله عليه وسلم: {لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس}.

وكان موسى عليه السلام إذا مشى ليكلم الله في طور سيناء؛ يمشي قليلاً ويسجد على الأرض، ويبكي ويقول: [[اللهم إليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك]].

فكان يرفعه الله درجة حتى كلمه.

ويقول ابن كثير في تفسيره وأهل الأثر: كان الله إذا كلم موسى وجد النور على وجهه أربعين يوماً من آثار ذاك الكلام وذكر ابن كثير في سورة طه: أن الله قال لموسى: أتدري لماذا اخترتك من بين الناس رسولاً ونبياً؟! قال: لا، قال: نظرت إلى قلوب الناس فوجدت قلبك يحبني أكثر الناس، ووجدت قلبك أكثر الناس تواضعاً لي.

ولذلك ضرب السلف الصالح في هذه المبادئ السمة العليا؛ ومنهم أبو مسلم الخولاني فقد ترجم له الذهبي في المجلد الرابع من سير أعلام النبلاء، فقال: كان لسانه لا يفتر من ذكر الله أبداً، دخل على معاوية، وهو خليفة، فكان يتمتم، فقال له معاوية: أجنون هذا يا أبا مسلم! قال: جنون يا معاوية!

وقال آخر قيل له وهو يسبح: أجنون هذا؟ قال: هذا طب الجنون.

وفي بعض الآثار وفيها ضعف ذكرها الشوكاني في تحفة الذاكرين في شرح الحصن الحصين لـ ابن الجزري: [[اذكر الله حتى يقول الناس: مجنون]] وهذا لا يتأتى إلا بألا تجعل للناس قيمة؛ لأنك إذا نظرت إليهم فسوف يأخذون عليك وقتك، لأن بعض الناس لا يريد أن يسبح في المجلس؛ لئلا يقولوا: راءى، أو لأنهم ينظرون إليه، أو موسوس، دعهم يقولون ذاك.

فليتك تحلو والحياة مريرةٌ وليتك ترضى والأنام غضابُ

وليت الذي بيني وبينك عامرٌ وبيني وبين العالمين خرابُ

إذا صح منك الود فالكل هينٌ وكل الذي فوق التراب ترابُ

أبيات لـ أبي فراس، ونسبت إلى رابعة العدوية، والصحيح أنها لـ أبي فراس قالها في البشر، قال أحد العلماء: أحسن كل الإحسان في نظم الأبيات، وأساء كل الإساءة يوم جعلها للبشر.

أتى ابن هانئ الأندلسي الشاعر أتى إلى ملك من الملوك فقال:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار

نعوذ بالله من الخذلان! فأخذه الواحد القهار أخذ عزيزٍ مقتدر، الذي لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد، عطله بعد القصيدة مباشرة بمرض، فكان ينبح كما ينبح الكلب، ويخور كما يخور الثور، ويتقلب على فراشه، ولما علم أن المرض بسبب هذه الأبيات، قال:

أبعين محتقرٍ إليك نظرتني فأهنتني ورميتني من حالق

لست الملوم أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق

فمن علق أمله بغير الله؛ خذله الله في أحرج الأوقات، وجعل كيده في نحره، وسلبه من قدراته، وعطله من معطياته، وجعله طريداً بعيداً، ومن توكل على الله؛ كفاه وسدده.

<<  <  ج:
ص:  >  >>